الفساد والمفسدون في العالم العربي ـ ثنائية التخلف والظلم في جامعاتنا العربية المعاصرة
د. محمد عبد الرحمن يونس
قاص وروائي وباحث وأستاذ جامعي
الإهداء إلى أخي وصديقي الدكتور : لطيف الوكيل
الأوضاع المأساوية في عالمنا العربي ، والكفاءات المظلومة في هذا العالم ، ظاهرة شاملة تعم بلدانه كلها: مدنه وقراه وبواديه، ، لا نستثني بلدا من دون آخر، وهي متجذرة في جميع أقطاره الكئيبة والبائسة ،
وهذه الأوضاع كفيلة بقتل المبدعين والشرفاء في كثير من دولنا العربية .
ويبدو أن السلطات العربية عرفت كيف تقتل العقل، وتنفي أصحابه، فهي لا تقرّب أبدا أصحاب العقل والفكر والمعرفة بل المتملقين والانتهازيين والطغام الصغار، وقد وعى هؤلاء المتملقون طبيعة التركيبة المعرفية والعقلية لهذه السلطات فسايروها ، وعرفوا كيف ينحنون لها ، وكيف يأكلون كتفها، لأنها هي الأخرى عرفت كيف تطوعهم ، وتأكل أكتافهم، وتذلهم، وتسخرهم لمصالحها الذاتية ، وأهدافها ، وتوجهاتها الميكيافيلية.
مأساة كبرى هي حالنا في عالمنا المتخلّف القاتل لحرية العقل والفكر التنويري والتخيل المعرفي ، كل شيء عندما مقتول مقموع.
إن التأمل في واقع الحياة العربية المعاصرة ، ومحاولة معرفة خباياها ، وآلية سيرها، وتركيبتها البنيوية والمعرفية سيجعلنا نكتشف كم نحن ومقهورون ، وبائسون ، ومهانون في عالمنا العربي البدوي والبائس حتى النخاع ، كم حقوقنا مهدورة ومهانة في أروقة هذا العالم ، وكم نحن مظلومون كأساتذة جامعيين وككتاب في جامعاتنا ودوائرنا الحكومية ، فلو تأملنا جامعاتنا العربية سندهش من استفحال التخلف والبؤس في أروقتها ومناهجها، والرؤية الابستيمولوجية التي تنطلق منها ، لتكرسها تنظيرا وفكرا وممارسة ، إنها ترتع في غابات من التخلف والظلم ، فبدلا من أن تكون منابر للعقل والفكر الحر والنظيف ، تصبح بؤرة للتخلف يستبد بها عمداء كليات جهلة لا يفقهون شيئا ، و مدراء جامعات أغلقوا صدروهم في وجه الحق والخير والعدل والعلم والمعرفة ، ووضعوا حولهم بطانة كاذبة تمنع المظلومين من الأساتذة النبلاء والشرفاء من الوصول إليهم .
وفي أروقة هكذا جامعات يتحكم في رزق الأساتذة ورزق أطفالهم مجموعة من العمداء المستبدين الجهلة . وإن أنت تكلمت فإنك مهدد بقطع رزقك ، وقديما قالوا : (( قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق))، غير أن المسؤولين في جامعاتنا العربية عرفوا كيف يلجمون أفواه الشرفاء في جامعاتهم ، من خلال رؤية جديدة يعتمدونها حديثا في علاقاتهم ، وهي قطع الأعناق والأرزاق معا .
ومن هنا لا عجب أن تسهم هذه الجامعات في قتل حرية أساتذتها ، ومفكريها ومبدعيها ، ومن هنا أيضا سر تخلفنا العقلي والمعرفي ، فالإحصائيات الحديثة تؤكد أننا أمم متخلفة بامتياز ، ولذا نجد جامعاتنا العريقة في أدنى سلم التطور الحضاري والمعرفي والإنساني والثقافي.
وعلى الرغم من تطور المعرفة ونموها المزدهر في معظم أنحاء العالم المعاصر، إلا أننا في عالمنا العربي لا تزال تسيطر عليه أعراف البادية والقبيلة والعشيرة والطائفة و هي التي تتحكم في عقولنا وحياتنا وتفكيرنا ، أننا محكومون بالخوف ، ننام خائفين ونأكل خائفين ، ونتكلم خائفين ، حتى الخوف يصبح كابوسا في حياتنا ، ولنا أن نتساءل : هل يوجد مدينة عربية في عالمنا العربي يحركها الحس المديني الحضاري ؟ هل علاقات القانون والنظام هي التي تحكم علاقتنا وتضبطها وتنظمها أم علاقات البادية والعشيرة والقبيلة والسيوف والخناجر والأسلحة ؟
أين هو التطور الحضاري والازدهار المعرفي الذي وصلنا إليه الآن ؟ والذي تتبجح به الدوائر الثقافية والإعلامية التي تتبع نظام الدول العربية وسياساتها، أين هي حرية الفكر والعقل ؟ أين هو المسؤول في عالمنا العربي الذي يفتح صدره لإنصاف المظلومين من موظفيه العاملين في دوائر دولته . أين هو الوزير الذي يضع نصب عينيه ـ في علاقاته ودوائر وزارته ـ شعارات الحق والعدل والخير؟ أين هو ذاك الذي ينصف المظلومين، ويحلّ لهم عقد معاملاتهم الإدارية؟ لقد تحوّل عالمنا العربي في ظل قوانيننا الجاهلة إلى غابة حقيقية: القوي يأكل فيها الضعيف . و تحوّل القضاء عندنا إلى مناصرة الظالم على المظلوم . لقد انقلبت موازين القيم والأخلاق ، فمن كان نزيها شريفا نظيف اليد ، طاهر القلب واللسان صار في أعراف مجتمعاتنا الغابوية أحمق جاهلا ، ومتهورا ، ولا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، وقديما قالوا : الساكت عن الحق شيطان أخرس . من القادر عندنا على قول كلمة الحق ؟ من القادر على إنصاف المظلومين ؟ من القادر على أن يقف في وجه قاض ظالم أو مدير شركة ؟ أو وزير أو مدير جامعة طاغ مستبد ويقول له : يا أخي كفاك استبدادا . أو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟.
كم هي الحياة قاسية في عالمنا العربي ؟ فالكثير من أفراد هذا العالم يتمنون الموت بدلا من الحياة؟ إني أعرف أناسا يدعون الله يوميا كي يموتوا ويتخلصوا من قسوة الحياة في عالمهم ومحيطهم الإنساني والاجتماعي .
فما ذا يعني أن يكون الموت حلما وغاية عند المواطن العربي ؟ متى كان الموت أمنية ؟. عندما نشكر إنسانا ما نقول له : بارك الله بك ، وأطال الله عمرك . الآن يقول لك المواطن العربي المدمى حزنا وجراحا : لا يا أخي قل : قصّر الله عمرك فالموت أهون من الحياة وأكثر رحمة في مدن العالم العربي الميتة المسجونة والسجّانة في آن.
تصور يا أخي : أن تقول طفلة أو طفل لأبيه : بابا أريد حليبا ، أريد دفاتر وأقلاما . أريد حلوى . ويغصّ هذا الأب بالدمع حزينا مقهورا قائلا: والله لا أملك شيئا يا ولدي.
لقد أكد لي معارفي الصادقون : أن هناك عائلات في عالمنا العربي يتناوب أفرادها على تناول الطعام : فإن تناول بعض أفراد العائلة الطعام ظهرا فإنه لا نصيب له من العشاء ، لأن العشاء يكون من نصيب إخوته ، وإن صمم على تناول الوجبتين معا فسيجوع أخوه . ويتناوب هؤلاء الأفراد في ارتداء الأحذية والملابس . فمن يرتدي هذا الحذاء اليوم ، لا يرتديه غدا ، لأنه لايوجد حذاء لكل فرد من أفراد عائلته . نحن مهانون وحزاني ومقهورون. نحن مكبّلون بالظلم ، ولا أفق لنا، حتى الأحلام الجميلة غائبة من حياتنا ، ويجنّ الإنسان عندما يمنع من الحلم على حدّ تعبير بودلير.
لقد رفعنا الظلم شعارا لنا ، والكذب والمكر والخداع راية وعرفا وقانونا . نحن مهانون في دواخلنا وأحلامنا ، انظر بهدوء وتمعن إلى حكمنا وأمثالنا تجدها مليئة بالخنوع والذل والمهانة :
( إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) ، اذاً علينا أن نصمت حتى نكسب الذهب ،و ( اليد التي تظلمك قبّلها وقل :الله يبليها بالكسر) . ( وامش بجوار الحيط وقل يا الله السترة ) ، و( لا تتكلم في ما لايعنيك تلق ما لايرضيك ) ، و( الأرض المنخفضة تشرب ماءها وماء غيرها)، و( مائة أم تبكي ولا أمي تبكي)، فكن منخفضا أيها المواطن العربي ولا ترفع رأسك ، حتى تشرب بذل ومهانة، ولا تفكرّ إلا بنفسك ومصلحتك فقط. . كن مهانا واقبل فتات موائد السماسرة والمرابين والانتهازيين وسارقي أقوات الشعوب.
إنّ العالم العربي ليس إلا غابة كبيرة شاسعة ، ولم تسهم الجامعات العربية في الحد من نمو هذه الغابة لأن القائمين عليها انتهازيو ن متسلقون وأنانيون ـ إلاّ ما رحم ربي ـ لا يريدون إلا مصالحهم ومصالح بناتهم ونسائهم السريّات والعلنيات، يريدون أن يشبعوا وتشبع كلابهم وقططهم المدللة فقط، وليمت الآخرون هما ونكدا وجوعا ، لقد وجدوا أنفسهم رؤساء جامعات وعمداء كليات من دون أن يقدموا بحثا أكاديميا واحدا ، وإن كتبوا فإنهم كتبوا أبحاثا هزيلة ومسروقة . هم تسلقوا وسكتوا عن الحق، وأخفوه، ورفعوا راية الظلم قانونا ودستورا . هم دّبجوا الخطب للمسؤولين فصاروا في مواقعهم، ولو عرف هؤلاء المسؤولون حقيقة هؤلاء المنتهزين المتسلقين الكاذبين لما صاروا في هذه المناصب، بل لعاقبوهم بالسجن. هم تزلّفوا وتملّقوا وكذبوا ، وارتشوا ورشوا وما خافوا الله فصاروا في مواقعهم هذه . وحال الثقافة هي الأخرى في عالمنا العربي لا تقل بؤسا عن حال جامعاتنا ومؤسساتنا الحكومية . لقد تحولت مؤسساتنا الثقافية الرسمية إلى عقارات ، والشاطر والفهيم من المسؤولين عليها هو الذي يسرع ويقتطع هذه العقارات ويطوّبها باسمه أو باسم زوجاته أو أبنائه أو أصهاره . ماذا يعني أن يظل مدير مؤسسة ثقافية لمدة ثلاثين سنة ونيف فوق رأس هذه المؤسسة أو تلك ؟ هل عقمت الأمة ولم تستطع أن تنجب بديلا منه ؟
لقد حوّل مدراء المؤسسات الثقافية دوائر النشر عندهم إلى أملا ك خاصة ، ينشرون لمن تملقهم ، وطأطأ أمامهم ، ويبعدون كل من عارضهم في سياستهم الثقافية ، نستثني من ذلك بعض الشرفاء القلائل الذين طبقوا سياسة العدل في النشر .
في عالمنا العربي مئات المخطوطات تستحق النشر ، بل قل آلاف ، لكنها لا تجد ناشرا ينشرها . في حين نجد أن مئات المخطوطات المطبوعة لا تقدم شيئا للعقل والفكر، وإلا ماذا يعني انتشار كتب الطبخ والأبراج وأخبار الجرائم : جرائم النساء والاغتصاب والاختلاس والسياسية والمال والاقتصاد بهذه الكثرة العجيبة و المحيّرة؟ ، أضف إلى ذلك ثقافة الجنس الاستهلاكية الرخيصة الرائجة ، وثقافة السلعة والاستهلاك . نحن أمة لا تقرأ، والدليل على ذلك أن أفضل المخطوطات العربية لا يطبع منها أكثر من خمسة آلاف نسخة ، وتظل خمس سنوات وربما أكثر حتى تباع ، في حين أن الكتاب الواحد ـ على سبيل المثال ـ يطبع منه في دور النشر الفرنسية والإنكليزية أكثر من مليوني نسخة ، والكاتب عندنا في عالمنا يظل فقيرا ومهانا وجائعا ، فهو يستدين من أصدقائه أجور تكاليف طباعة كتابه، وعندما يطبعه المسكين يقدمه هدايا لأصدقائه ، علّهم يكتبون عنه ، ويروّجون له، لكن نادرا ما يكتبون . إني أعرف شعراء موهوبين ، وقاصين مبدعين لا يجدون قوت يومهم إلا بصعوبة بالغة، ويلجأون إلى أصدقائهم لشراء ثمن وجبة طعام أو قميص أو حذاء .
نحن أمّة تقتل مفكريها وعلماءها ، وتهجّرهم غصبا عنهم، وتبعدهم إما قسرا وإما بالرضا ، وإلا بماذا نعلل وجود نخبنا العربية خارج بلدانها ، تبحث عن عمل ، وتتعرض للاغتراب والمهانة ، وفقدان الأمان والطمأنينة الروحية والإنسانية ؟ ماذا يعني أن لا يجد حاملو أعلى الشهادات العلمية عملا في بلدانهم ؟ أو أن يحاربوا كلما تقدّم أحدهم بطلب وظيفة إلى هذه المؤسسة أو تلك الجامعة ؟
نحن أمة ظالمة، جائرة ، ولن تنمو هذه الأمة إلا بتحقيق العدل والسلام والأمان لمواطنيها ، و(( الجور يقتل صاحبه)) كما قال أحد الحكماء ، و( من استلّ سيف البغي قتل به) كما يقول حيكم وفيلسوف إسلامي آخر. نحن أمّة سيقتلها جورها وبغيها على مواطنيها ، وسيقتلها استبدادها، وإن لم يحكمها قانون العقل والعدل والخير والإنصاف، وتكافؤ الفرص، ورد الحقوق إلى أصحابها ، فبشّر بزوالها إن آجلا أم عاجلا . نحن أمة كئيبة منهكة حزينة، ولن يفيدها أفراح العالم كله ، نحن أمة ظالمة ولن يفيدها قضاة العالم كله . وهل أمة بهذه المواصفات قادرة على أن تواكب بقية الأمم التي قطعت أشواطا لا مثيل لها في الحريات والديمقراطيات واحترام حقوق الإنسان ؟
Replies