صورة القديس أوغسطسن
في عام 313م، إعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين الديانة المسيحية، وباتت الديانة المسيحية هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية. في الوقت الذي لم يكن فيه عدد المؤمنين بالمسيحية بين الرعايا الرومان لا يتجاوز عشرة في المئة.
خلال القرنين التاليين، اتجه رجال الدين المسيحي إلى الفلسفة الأفلاطونية الجديدة كمصدر فكري يدعمون به دينهم الجديد. أول هؤلاء هو الفيلسوف المسيحي أوغسطين.
ولد أوغسطين (354 – 430م)، في طاغشت من أعمال نوميديا (الجزائر اليوم). درس في مدرسة المدينة، ثم إنتقل إلى قرطاجة وروما وميلانو. ارتد عن المسيحية في صباه، وتنقل بين الثقافة اليونانية والثقافة المانوية والثقافة اللاتينية، وكان يحضر حلقات الأفلاطونيين المحدثين أتباع فلسفة أفلوطين.
كتب في اعترافاته سنة 400م، إن التعاليم الأفلاطونية مهدت لإعتناقه المسيحية. جعل موضوعي الإيمان والعقل، المحورين الأساسيين في حياته. فهو صاحب المبدأ الذي يقول "أومن كي أعقل". عاش راهبا كثير التنقل. يكتب ويراسل وينقد المانوية ويدافع عن المسيحية.
المانوية ديانة منسوبة إلى ماني الفارسي في القرن الثالث الميلادي، والتي تقوم على معتقد أن العالم مركب من أصلين قديمين. أحدهما النور والآخر الظلمة. لذلك جاءت فلسفة القديس أوغسطين خليطا من عناصر مانوية وأخرى مسيحية، تري الحقيقة في ضوء الصراع بين الضياء، الذي يمثل الخير، والظلام الذي يمثل الشر. الصراع بين الضياء والظلام أو الخير والشر، ينج عنه هذا العالم.
الروح تمثل الخير، والجسد يمثل الشر. وكان القديس أوغسطين، وهو يعتنق المانوية، يرجع كل الشرور إلى عناصر خارج الإنسان نفسه.
لكن القديس أوغسطين، سرعان ما أصبح غير راض عن هذا التفسير لوجود الشر. لذلك ذهب يبحث عنه في الفلسفة الأفلاطونية الجديدة التي تهتم بالأمور الغير مادية. من الأفلاطونية الجديدة، جاءت فكرة أن الشر ليست له طبيعة حقيقية مثل الخير، ولكنه مجرد نقص أو غياب عن الخير أو الفعل الحسن.
كلما زاد الخير، كلما زادت حقيقة الشئ. وكلما قلت حقيقة الشئ، كلما إزدادت طبيعة الشئ سوءا. مثل نقص الكالسيوم يسبب تسوس الأسنان. الحفرة ليست شيئا ما. إنما هي غياب لوجود التراب. الخطيئة، ليست شيئا في حد ذاته، إنما مجرد غياب الخير أو غياب الفعل الحسن.
في عام 388م، بعد مرور أوغسطين بتجربة روحية، تحول إلى الديانة المسيحية. وفي عام 396م، أصبح أسقفا لمدينة هيبو في الجزائر حتي وفاته عام 430م.
خلال هذه الفترة، كانت المسيحية غير واضحة المعالم في أذهان الناس ولم تتضح شخصيتها بعد. وكان القديس أوغسطين، يكرس كل طاقته لمحاربة البدع التي كانت موجودة في عصره مثل الآريوسية والمانوية والبيلاجيوسية، نسبة إلى الراهب البريطاني بيلاجيوس في القرن الرابع ، التي تنكر الخطيئة الأصلية وتقول بحرية الإرادة التامة وتحد من القدرة الإلهية.
لذلك وجد أوغسطين نفسه يمشي على حبل مشدود. من جهة، عليه أن يهاجم المانوية لأنها تقلل من شأن حرية الإرادة للإنسان. ومن جهة أخرى، عليه أن يهاجم البيلاجيوسية التي تقول العكس. وهي قصة: هل الإنسان مسير أم مخير؟ التي قسمت العالم الإسلامي إلى فرق وملل وأحزاب، سالت بسببها الدماء وقتل من أجلها العلماء والأبرياء.
هنا ظهرت للقديس أوغسطين مشكلة فلسفية عميقة. وهي:
إذا كان الله سبحانه يعرف المستقبل، فالمستقبل سوف يتحقق وفقا لهذه المعرفة. إذا كان الله سبحانه يعلم أن هذا الرجل سوف يرتكب جريمة قتل في اليوم الفلاني، فأين حرية الإرادة هنا بالنسبة للقاتل. مهما فعل أو تاب أو غير من رأيه، سوف ينتهي به الأمر إلى قتل الضحية.
هذا يعني أنه ليست هناك حرية إرادة للإنسان. وبذلك هو ليس مسؤولا عن أعماله. ويكون عقاب الناس عن خطاياهم عملا غير أخلاقي. إذا كان الله يعلم مسبقا أن يهوذا سوف يخون السيد المسيح ويتسبب في صلبه، كيف يرسله إلى جهنم في هذه الحالة؟
كيف استطاع أوغسطين تجنب هذه المشكلة المحيرة؟ فعل ذلك باستخدام بعض الحجج والفروض الذكية. منها:
إن الله حاضر أبدي، ليس له ماضي أو مستقبل. كل شئ بالنسبه له سبحانه يحدث في آن واحد. القول بأن الله كان يعلم منذ ملايين السنيين بأن يهوذا سوف يخون المسيح، هو خطأ الإنسان في الإعتقاد بأن الله سبحانه داخل نطاق الزمن. في الواقع، الله خارج نطاق الزمن. وهذا ما نعنيه بأنه أزلي دائم الوجود. نحن نأتي ونروح ونولد ونموت، ولكن الله باق دائم أزلي.
أيضا، جاء أوغسطين بفكرة أن حرية الإرادة تعني حرية الإنسان في أن يفعل ما يريد. معرفة الله المسبقة بما سوف يفعله يهوذا، لا تسبب الفعل نفسه. مثل علم المدرس المسبق برسوب التلميذ. علم المدرس لم يتسبب في رسوب التلميذ. إنما السبب في الرسوب يأتي من درجة تحصيل التلميذ وعدم فهمه لمواد الدراسة.
هذه طريقة تفكير القديس أوغسطين. فلسفته تنصب على علاقة الرب بعبيده. وكانت كتاباته موجهة إلى عالم مضطرب الفكر والأخلاق.
النظام القديم والفلسفة القديمة التي أسسها الإغريق والرومان كانت منهارة في ذلك الوقت. في الواقع، عندما كان أوغسطين يمر بمرحلة الشيخوخة في مدينة هبو بشمال أفريقيا، كان البربر الفاندال، يغيرون على المدينة ويقومون بحرقها. إلا أنهم أبقوا على كتدرائية المدينة التي كان يوجد بها القديس أوغسطين إكراما له.
وكأن النار التي قضت على مدينة هبو، هي نفسها النار التي قضت على الإمبراطورية الرومانية. بذلك، يسدل الستار على الفترة الكلاسيكية من تاريخ البشرية، ويبدأ الليل الطويل والسبات العميق للعصور المظلمة.
بموت أوغسطين، سقطت الفلسفة الغربية وتآكلت. واستمر هذا التدهور 400 سنة. كانت بمثابة ليل حالك للروح الغربية. الرومان لم يستطيعوا السيطرة على أطراف إمبراطوريتهم. وقبائل التيوتان من الغابات الشرقية تواصل الإغارة على الإمبراطورية الرومانية القديمة.
سقطت روما مرتين خلال 35 سنة. الأباطرة الجدد البرابرة لهم أسماء جرمانية بدلا من الأسماء اللاتينية للأباطرة السابقين. لم يكونوا مهتمين بالثقافة والعلوم المعروفة فى الزمن القديم. الفلسفة كما كان يعرفها الإغريق والرومان، أصبحت في خطر ومهددة بالفناء.
خلال هذا الليل الطويل الحالك، كانت شموع فلسفية قليلة تتوهج فى بقايا أطراف الإمبراطورية الرومانية المحتضرة. بعض الصوامع المعزولة في إيطاليا، وأسبانيا، وبريطانيا وبعض الجزر في البحر الإيرلندي. هذه الصوامع، أنتجت ما يعرف بالموسوعيين. الذين قاموا بتجميع وحفظ ما كان يصلهم مما تبقى من الحكمة والفلسفة الكلاسيكية.
من هؤلاء الموسوعيين ثلاثة. هم بويثوس (480-525م) في إيطاليا، إيزيدور (570-636م) في أسبانيا، وبيدي (674-735م) في إنجلترا. جاء في موسوعة إيزيدور تحت حرف الألف، موضوع عن النظرية الذرية، وموضوع آخر عن شعب الأنتيبود الذين كانوا يسكنون المنطقة الصخرية في جنوب أفريقيا. وكان لكل منهم في كل رجل إصبع قدم خارج القدم، لكي يساعدهم في المشي بين الصخور.
بعد أربعة قرون من الصمت المطبق، بدأت تظهر أولى براعم فلسفية في أعمال جون الإيرلندي (جون سكوتوس إريجينا 810-877م). دعي جون إلى مدرسة الملك شارل الملقب بالأصلع لترجمة كتاب سودو-كريشيان من اليونانية إلى اللاتينية، وهو كتاب قام بتأليفه أحد فلاسفة الأفلاطونية الجديدة. أما كتب جون نفسه ومنها، "حول تقسيم الطبيعة" و"العروض التراتبية السماوية للقديس ديونيسيوس"، فقد كانت متأثرة بالمسيحية والأفلاطونية الجديدة.
كان هدف جون هو فهم الحقيقة. وكان يسميها الطبيعة. أول شئ قام به، هو التفرقة بين الأشياء الموجودة، والأشياء الغير موجودة. الأشياء الموجودة أو الحقيقية درجات. هناك شئ موجود حقيقي، أكثر حقيقة من شئ موجود آخر. فمثلا، الشجرة التي تنبت أمام منزلنا، لأنها تتغير بإستمرار وتمرض وتموت، هي أقل درجة بالنسبة للوجود من الشجرة "المُثل" التي جاءت في فلسفة أفلاطون.
الأشياء التي يمكن فهمها أو استيعابها بالعقل الإنساني، هي الأشياء الموجودة الحقيقية، والتي يسمى الكامل منها "المُثل" في فلسفة أفلاطون. ما عدا ذلك غير موجود.
جاء في قمة تقسيمات جون للحقيقة أو الوجود، مفهوم الوجود الأعلى، أو مافي عام 313م، إعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين الديانة المسيحية، وباتت الديانة المسيحية هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية. في الوقت الذي لم يكن فيه عدد المؤمنين بالمسيحية بين الرعايا الرومان لا يتجاوز عشرة في المئة.
خلال القرنين التاليين، اتجه رجال الدين المسيحي إلى الفلسفة الأفلاطونية الجديدة كمصدر فكري يدعمون به دينهم الجديد. أول هؤلاء هو الفيلسوف المسيحي أوغسطين.
ولد أوغسطين (354 – 430م)، في طاغشت من أعمال نوميديا (الجزائر اليوم). درس في مدرسة المدينة، ثم إنتقل إلى قرطاجة وروما وميلانو. ارتد عن المسيحية في صباه، وتنقل بين الثقافة اليونانية والثقافة المانوية والثقافة اللاتينية، وكان يحضر حلقات الأفلاطونيين المحدثين أتباع فلسفة أفلوطين.
كتب في اعترافاته سنة 400م، إن التعاليم الأفلاطونية مهدت لإعتناقه المسيحية. جعل موضوعي الإيمان والعقل، المحورين الأساسيين في حياته. فهو صاحب المبدأ الذي يقول "أومن كي أعقل". عاش راهبا كثير التنقل. يكتب ويراسل وينقد المانوية ويدافع عن المسيحية.
المانوية ديانة منسوبة إلى ماني الفارسي في القرن الثالث الميلادي، والتي تقوم على معتقد أن العالم مركب من أصلين قديمين. أحدهما النور والآخر الظلمة. لذلك جاءت فلسفة القديس أوغسطين خليطا من عناصر مانوية وأخرى مسيحية، تري الحقيقة في ضوء الصراع بين الضياء، الذي يمثل الخير، والظلام الذي يمثل الشر. الصراع بين الضياء والظلام أو الخير والشر، ينج عنه هذا العالم.
الروح تمثل الخير، والجسد يمثل الشر. وكان القديس أوغسطين، وهو يعتنق المانوية، يرجع كل الشرور إلى عناصر خارج الإنسان نفسه.
لكن القديس أوغسطين، سرعان ما أصبح غير راض عن هذا التفسير لوجود الشر. لذلك ذهب يبحث عنه في الفلسفة الأفلاطونية الجديدة التي تهتم بالأمور الغير مادية. من الأفلاطونية الجديدة، جاءت فكرة أن الشر ليست له طبيعة حقيقية مثل الخير، ولكنه مجرد نقص أو غياب عن الخير أو الفعل الحسن.
كلما زاد الخير، كلما زادت حقيقة الشئ. وكلما قلت حقيقة الشئ، كلما إزدادت طبيعة الشئ سوءا. مثل نقص الكالسيوم يسبب تسوس الأسنان. الحفرة ليست شيئا ما. إنما هي غياب لوجود التراب. الخطيئة، ليست شيئا في حد ذاته، إنما مجرد غياب الخير أو غياب الفعل الحسن.
في عام 388م، بعد مرور أوغسطين بتجربة روحية، تحول إلى الديانة المسيحية. وفي عام 396م، أصبح أسقفا لمدينة هيبو في الجزائر حتي وفاته عام 430م.
خلال هذه الفترة، كانت المسيحية غير واضحة المعالم في أذهان الناس ولم تتضح شخصيتها بعد. وكان القديس أوغسطين، يكرس كل طاقته لمحاربة البدع التي كانت موجودة في عصره مثل الآريوسية والمانوية والبيلاجيوسية، نسبة إلى الراهب البريطاني بيلاجيوس في القرن الرابع عشر، التي تنكر الخطيئة الأصلية وتقول بحرية الإرادة التامة وتحد من القدرة الإلهية.
لذلك وجد أوغسطين نفسه يمشي على حبل مشدود. من جهة، عليه أن يهاجم المانوية لأنها تقلل من شأن حرية الإرادة للإنسان. ومن جهة أخرى، عليه أن يهاجم البيلاجيوسية التي تقول العكس. وهي قصة: هل الإنسان مسير أم مخير؟ التي قسمت العالم الإسلامي إلى فرق وملل وأحزاب، سالت بسببها الدماء وقتل من أجلها العلماء والأبرياء.
هنا ظهرت للقديس أوغسطين مشكلة فلسفية عميقة. وهي:
إذا كان الله سبحانه يعرف المستقبل، فالمستقبل سوف يتحقق وفقا لهذه المعرفة. إذا كان الله سبحانه يعلم أن هذا الرجل سوف يرتكب جريمة قتل في اليوم الفلاني، فأين حرية الإرادة هنا بالنسبة للقاتل. مهما فعل أو تاب أو غير من رأيه، سوف ينتهي به الأمر إلى قتل الضحية.
هذا يعني أنه ليست هناك حرية إرادة للإنسان. وبذلك هو ليس مسؤولا عن أعماله. ويكون عقاب الناس عن خطاياهم عملا غير أخلاقي. إذا كان الله يعلم مسبقا أن يهوذا سوف يخون السيد المسيح ويتسبب في صلبه، كيف يرسله إلى جهنم في هذه الحالة؟
كيف استطاع أوغسطين تجنب هذه المشكلة المحيرة؟ فعل ذلك باستخدام بعض الحجج والفروض الذكية. منها:
إن الله حاضر أبدي، ليس له ماضي أو مستقبل. كل شئ بالنسبه له سبحانه يحدث في آن واحد. القول بأن الله كان يعلم منذ ملايين السنيين بأن يهوذا سوف يخون المسيح، هو خطأ الإنسان في الإعتقاد بأن الله سبحانه داخل نطاق الزمن. في الواقع، الله خارج نطاق الزمن. وهذا ما نعنيه بأنه أزلي دائم الوجود. نحن نأتي ونروح ونولد ونموت، ولكن الله باق دائم أزلي.
أيضا، جاء أوغسطين بفكرة أن حرية الإرادة تعني حرية الإنسان في أن يفعل ما يريد. معرفة الله المسبقة بما سوف يفعله يهوذا، لا تسبب الفعل نفسه. مثل علم المدرس المسبق برسوب التلميذ. علم المدرس لم يتسبب في رسوب التلميذ. إنما السبب في الرسوب يأتي من درجة تحصيل التلميذ وعدم فهمه لمواد الدراسة.
هذه طريقة تفكير القديس أوغسطين. فلسفته تنصب على علاقة الرب بعبيده. وكانت كتاباته موجهة إلى عالم مضطرب الفكر والأخلاق.
النظام القديم والفلسفة القديمة التي أسسها الإغريق والرومان كانت منهارة في ذلك الوقت. في الواقع، عندما كان أوغسطين يمر بمرحلة الشيخوخة في مدينة هبو بشمال أفريقيا، كان البربر الفاندال، يغيرون على المدينة ويقومون بحرقها. إلا أنهم أبقوا على كتدرائية المدينة التي كان يوجد بها القديس أوغسطين إكراما له.
وكأن النار التي قضت على مدينة هبو، هي نفسها النار التي قضت على الإمبراطورية الرومانية. بذلك، يسدل الستار على الفترة الكلاسيكية من تاريخ البشرية، ويبدأ الليل الطويل والسبات العميق للعصور المظلمة.
بموت أوغسطين، سقطت الفلسفة الغربية وتآكلت. واستمر هذا التدهور 400 سنة. كانت بمثابة ليل حالك للروح الغربية. الرومان لم يستطيعوا السيطرة على أطراف إمبراطوريتهم. وقبائل التيوتان من الغابات الشرقية تواصل الإغارة على الإمبراطورية الرومانية القديمة.
سقطت روما مرتين خلال 35 سنة. الأباطرة الجدد البرابرة لهم أسماء جرمانية بدلا من الأسماء اللاتينية للأباطرة السابقين. لم يكونوا مهتمين بالثقافة والعلوم المعروفة فى الزمن القديم. الفلسفة كما كان يعرفها الإغريق والرومان، أصبحت في خطر ومهددة بالفناء.
خلال هذا الليل الطويل الحالك، كانت شموع فلسفية قليلة تتوهج فى بقايا أطراف الإمبراطورية الرومانية المحتضرة. بعض الصوامع المعزولة في إيطاليا، وأسبانيا، وبريطانيا وبعض الجزر في البحر الإيرلندي. هذه الصوامع، أنتجت ما يعرف بالموسوعيين. الذين قاموا بتجميع وحفظ ما كان يصلهم مما تبقى من الحكمة والفلسفة الكلاسيكية.
من هؤلاء الموسوعيين ثلاثة. هم بويثوس (480-525م) في إيطاليا، إيزيدور (570-636م) في أسبانيا، وبيدي (674-735م) في إنجلترا. جاء في موسوعة إيزيدور تحت حرف الألف، موضوع عن النظرية الذرية، وموضوع آخر عن شعب الأنتيبود الذين كانوا يسكنون المنطقة الصخرية في جنوب أفريقيا. وكان لكل منهم في كل رجل إصبع قدم خارج القدم، لكي يساعدهم في المشي بين الصخور.
بعد أربعة قرون من الصمت المطبق، بدأت تظهر أولى براعم فلسفية في أعمال جون الإيرلندي (جون سكوتوس إريجينا 810-877م). دعي جون إلى مدرسة الملك شارل الملقب بالأصلع لترجمة كتاب سودو-كريشيان من اليونانية إلى اللاتينية، وهو كتاب قام بتأليفه أحد فلاسفة الأفلاطونية الجديدة. أما كتب جون نفسه ومنها، "حول تقسيم الطبيعة" و"العروض التراتبية السماوية للقديس ديونيسيوس"، فقد كانت متأثرة بالمسيحية والأفلاطونية الجديدة.
كان هدف جون هو فهم الحقيقة. وكان يسميها الطبيعة. أول شئ قام به، هو التفرقة بين الأشياء الموجودة، والأشياء الغير موجودة. الأشياء الموجودة أو الحقيقية درجات. هناك شئ موجود حقيقي، أكثر حقيقة من شئ موجود آخر. فمثلا، الشجرة التي تنبت أمام منزلنا، لأنها تتغير بإستمرار وتمرض وتموت، هي أقل درجة بالنسبة للوجود من الشجرة "المُثل" التي جاءت في فلسفة أفلاطون.
الأشياء التي يمكن فهمها أو استيعابها بالعقل الإنساني، هي الأشياء الموجودة الحقيقية، والتي يسمى الكامل منها "المُثل" في فلسفة أفلاطون. ما عدا ذلك غير موجود.
جاء في قمة تقسيمات جون للحقيقة أو الوجود، مفهوم الوجود الأعلى، أ وراء الوجود. الوجود الأعلى لايمكن للعقل البشري أن يستوعبه. واضح أن جون كان يعني بالوجود الأعلى أو الحقيقة العليا هي الله نفسه.
الإثبات والنفي، والوجود وغير الوجود (العدم)، بمفهومه عند هيجل، لا يمثل تعارضا. وإنما يمثل جدلا يقود إلى أن الله يقع فوق الوجود نفسه.
قام جون بتقسيم الطبيعة أو الوجود إلى أربعة أقسام، خالق ومخلوق كالآتي:
1- وجود يَخلق ولا يُخلق. وهو الله
2- وجود يَخلق ويُخلق. وهو "المُثل" عند أفلاطون
3- وجود لا يَخلق ولكنه يُخلق. وهو العالم المادي الذي نعيش فيه
4- وجود لا يَخلق ولا يُخلق. وهو الله
الخلق هنا بمعنى السبق في الوجود. الله يخلق الإنسان. لأن الله سابق وجوده على الإنسان. لذلك فالله هو البداية والنهاية، الأول والآخر. من الله جاء العالم، وإليه يعود. كل هذا شبيه بفكرة وحدة الوجود، كما جاءت في الأفلاطونية الجديدة وتعاليم أفلوطين.
كان يقول جون سكوتوس إريجينا، أن الجنة لن يدخلها أحد، إلا عن طريق الفلسفة. وكان يقول أيضا: إبحث عن الله في كل شئ، فهو موجود في كل مكان. كل شئ يأتي منه ويعود إليه.
عندما يستخدم العقل، لا يكون هناك إيمان، كما يقول جون سكوتوس. ويؤكد مقولة توماس الإقويني: "لا يمكنك معرفة شئ ما، والإيمان به في نفس الوقت". فأنت إما أن تعرف، أو تؤمن.
وظيفة العقل، هي فهم ما يوحى به ويقوم بشرحه. قد تكون السلطة هي مصدر المعرفة. ولكن يبقى العقل، هو الهادي الذي تقاس به كل السلطات. ولم يكن جون سكوتوس يتخيل وجود إيمان يتعارض مع العقل.
إختفى جون سكوتوس إريجينا من الوجود عام 877م. وبالرغم من محاولات الدفاع عن فلسفتة في تقسيم الطبيعة أو الوجود إلى درجات، إلا أن البابا هونوريوس الثالث في عام 1225م، قام بإتهامه بالهرطقة والخروج عن الكنيسة الكاثوليكية، وحرق كتبه. وبذلك ينتصر الفكر الدوجماتي مرة أخرى على العقل.
لم يأت بعد جون سكوتوس أريجينا من يستطيع بناء صرح فلسفي عظيم لمدة 350 سنة. منذ القرن التاسع حتى الثالث عشر، كانت الفلسفة تمارس في هيئة جهود متفرقة، لا تكون نظاما فلسفيا متكاملا مثل فلسفة أوغسطين أو جون إريجينيا، أو توماس الأقويني في القرن الثالث عشر. وكانت هذه البؤر الفلسفية المتفرقة، تنحصر في الفتاوي والأمور الدينية وقواعد اللغة.
من هذه الجهود المتفرقة، برهان وجود الله للقديس "أنسيلم" (1033-1109م). بدأ أنسيلم بقصة الأحمق، كما جاءت في سفر نشيد الإنشاد (1:55)، الذي يقول في قرارة نفسه أن الله غير موجود.
إلا أن أنسيلم يقول: حتي هذا الأحمق، لا يتصور في ذهنه موجودا أعظم من الله. لأن الشئ الذي لا نتصور وجود أعظم منه، لا يمكن أن يوجد في الذهن فقط. لوكان موجودا في الذهن فقط، لأمكننا أن نفكر في أنه موجد في الواقع أيضا، وهذا وجود أعظم. لماذا؟ لأن الشئ الموجود في العقل وموجود في الواقع، أعظم من الشئ الموجود في الخيال فقط.
في هذه الحالة، يكون الموجود الذي لا نستطيع أن نتصور أعظم منه، هو نفسه ما نستطيع أن نتصور أعظم منه، وهذا تناقض. وبذلك، يكون ما لا نستطيع أن نتصور أعظم منه، يوجد في الذهن والواقع أيضا. إذن الله موجود.
ولكي نفهم منطق أنسيلم، دعنا نتصور في أذهاننا أعظم أو أكمل وجود يمكن أن نتخيله. وليكن الله في مفهوم الديانة المسيحية. أي أنه يبلغ الكمال في العلم والقوة والخلود ...الخ.
الآن نسأل أنفسنا، هل هذا الإلهه الذي نتخيله موجود فقط في عقولنا؟ إذا كان موجودا فقط في عقولنا، فهو لن يكون أكمل أو أعظم شئ يمكن أن نتصوره. لماذا؟ لأن الإله الموجود في العقل والموجود أيضا في الواقع، سوف يكون أعظم من الإله الموجود في العقل فقط. لهذا يمكننا القول أنه لو استطعنا أن نتخيل أعظم شئ أو إله في عقولنا، هذا الإله لابد أن يكون موجودا أيضا في الواقع.
طبعا هذا المنطق لا يخلو من العيب. أحد معاصري أنسيلم، الراهب جونلون، قام بالإعتراض على منطق أنسيلم بالآتي:
1- من المستحيل تصور شئ عظيم، لا يوجد ما هو أعظم منه. هذا شئ محير للعقل.
2- إذا كان منطق أنسيلم صحيح، فبمجرد تصور جزيرة إستوائية في غاية الكمال، يترتب عليه وجود هذه الجزيرة.
فيجيب عليه أنسيلم ببساطة:
1- إذا فهمت معني "غاية الكمال"، فأنت قد تصور في ذهنك هذه الجزيرة.
2- لا يوجد في تعريف الجزر الإستوائية ما يعني الكمال. لكن بالنسبة لمفهوم الله، الكمال موجود. ومن المستحيل تخيل الله الغير كامل. وحيث أنه من الواضح أن "الوجود" أكثر كمالا من "عدم الوجود"، لذلك مجرد تصور الله في الذهن يثبت وجوده.
منطق أنسيلم هو منطق صعب، لكنه بارع في نفس الوقت. براعة هذا المنطق تأتي من توضيحه أن جملة "الله غير موجود"، هي جملة تعارض نفسها منطقيا. ولذلك الحمقى فقط هم الذين يقولون هذه الجملة.
البرهان الأنطولوجي في إثبات وجود الله، له تاريخ طويل. يعتقد الكثيرون أن عمانويل كانط، هو أول من شيع هذا البرهان إلى مثواه الأخير في القرن الثامن عشر. عندما أثبت أن الخطأ في البرهان، ليس خطأ في المنطق، ولكن الخطأ في قواعد اللغة.
في القرون الوسطى، إبتليت الفلاسفة بمشكلتين كبيرتين. المشكلة الأولى، هي مشكلة تعارض الإيمان مع العقل. والمشكلة الثانية، هي مشكلة إشتقاق العموميات من الخصوصيات.
أفضل حل لهاتين المشكلتين، جاء على يدي توماس الإقويني (أو الإكويني) في القرن الثالث عشر.
بالنسبة للمشكلة الأولى، وهي مشكلة تعارض الإيمان مع العقل، نجد فلاسفة مثل جون سكوتوس إريجينا، كانت فلسفتهم تعتمد على إستخدام العقل ولا مكان فيها للإيمان الأعمى. وحتى أنسيلم، الله عنده قضية فلسفية محضة لا تعتمد على الإيمان المطلق.
على العكس من ذلك، نجد ترتوليان (169-220م)، الذي كان عدوا للفلسفة، ولم ير فيها إلا كفرا من مخلفات الوثنية. يقول بأنها السبب وراء ما دخل المسيحية من ضلالات وبدع غنوصية. ومما أُثر عنه، قوله إن العاطفة الدينية غريزة مرتكزة في النفس البشرية، كما يتبدى في أوقات الشدائد والمحن.
الصراع بين أنصار العقل وأنصار الإيمان، نشأ عنه عدة أفكار. منها أفكار مجموعة "الرشديون اللاتين"، الذين يتبعون الفيلسوف العظيم إبن رشد، والذين يعتقدون في وجود الحقيقة المزدوجة.
الحقيقة المزدوجة تعني أنه بالنسبة لأي موضوع، توجد حقيقتان متعارضتان. حقيقة تأتي عن طريق الإيمان، والأخرى تأتي عن طريق العقل. لكن كلا منهما شرعي من وجهة نظره.
فمثلا، الإنسان جسد وروح. هذه حقيقة مزدوجة. عندما يموت الإنسان، يتحلل الجسد، وتصعد الروح إلى بارئها. هذه الفكرة، وإن كانت من الناحية المنطقية غير مقنعة، لعبت دورا إيجابيا في تطور العلوم بعيدا عن الصبغة الدينية.
المشكلة الأخرى المحيرة، هي مشكلة الخاص والعام، أو الواحد والمجموع، أو الفرد والعالم. هذه المشكلة ظهرت على يدي بويثيوس، الذي كان يترجم من اليونانية مقالة لأرسطو لمؤلف من الأفلاطونية الحديثة يدعي بورفيري (232-304م).
نحن نعلم أن الحيتان موجودة. لكن هل توجد الحيتان الزرقاء في الطبيعة. وهل جملة "هذا الكلب بني اللون"، تعني أن كلمتي الكلب والبني بها، مجرد إسم ولون لحيوان بعينه، أم تدل على مجموعة من الكلاب لونها بني. وهل الكلاب البني هذه حقيقية أم توجد فقط في عقولنا.
مشكلة الخاص والعام هذه، تشبه مشكلة مفهوم "المُثل"، بمعنى الشبيه أو الصورة، بين أفلاطون وأرسطو. لكن أفكار الفلاسفة اليونانيين القدامى لم تكن متوافرة للفلاسفة في أوائل القرون الوسطى. وكان عليهم أن ينتظروا 900 سنة، حتى يصلوا إلى ما وصل إليه أرسطو في 20 سنة فقط.
الفلاسفة في ذلك الوقت كانوا في حالة لخبطة وحيص بيص كبيرة بالنسبة لهذه القضية، لدرجة جعلت جون (1115-1180م) من سالزبيري، يقول إنه توجد آراء في هذه المشكلة بعدد الرؤوس الموجودة.
أحد هذه الآراء يتطرف في إتجاه، ويقول إن المجموعة أو النوع (الكلاب السوداء مثلا)، ليست فقط حقيقية، إنما حقيقتها أكثر من حقيقة الكلب الواحد. وكان هذا رأي أنسيلم نفسه.
على النقيض، جاء روسلين (1050-1120م) ووليام أوكهام (1280-1349م) لكي يقولا أن الفرد فقط هو الحقيقي. أما المجموع أو النوع، فمجرد أسماء. لذلك سمي هذا الفكر ب"النومينالزم"، وهؤلاء الفلاسفة ب"النوماليست" أو "الإسميين". وهو فكر لم يحظ بقبول الكنيسة الكاثوليكية.
هذا يقودنا إلى السؤال الآتي: البند الثاني من الدستور المصري يقول بأن دين الدولة الإسلام. الدولة تتكون من مجموعة أفراد. فهل الدولة كيان حقيقي يمكن أن يتدين ويقيم الشعائر ويموت ويدخل الجنة أو النار؟ أم هي مجرد كيان لا يوجد إلا في عقولنا، مثل الخط المستقيم وقواعد النحو والقوانين العلمية والدستور نفسه؟
بالنسبة للإسميين، الأسماء تخلق الخلاف والتشابه بين الأفراد. الخلاف والتشابه هي أشياء لا توجد في الواقع، وإنما فقط في عقولنا وفي مفردات لغتنا.
ثم يأتي توماس الإقويني (1225-1274م)، لكي يقدم لنا أفضل الحلول لتلك المشكلتين. مشكلة العقل والإيمان، ومشكلة الواحد والمجموع.
كان توماس الإقويني نبيلا من نبلاء إيطاليا. هرب من قلعة والده لكى يلتحق بجماعة دومينيكان الكاثوليكية. وكانت تظهر على جسمه، علامات الثراء والعز. فقد كان زائد الوزن يحب الأكل لدرجة أن مائدة الطعام كانت تعمل بها فجوة في شكل نصف دائرة، حتي يستطيع الجلوس على المائدة وبطنه داخل تلك الفجوة.
وقبل الحديث عن فلسفة توماس الإقويني، دعنا نقول شيئا عن حالة العالم الفكرية في القرن الثالث عشر .
مرت 100 عام بين وفاة أنسيلم ومولد توماس الإقويني. خلال هذا القرن، بدأ الإحتكاك من جديد بالفلسفة اليونانية القديمة، عن طريق الإتصال بالفلاسفة العرب في الأندلس. ولم تكتشف أوروبا أعمال أرسطو فقط، ولكن أيضا شروح وتفسيرات إبن رشد (1126-1198م) وإبن ميمون (1135-1204م).
وجد الأوربيون نظريات أرسطو مذهلة. تناسب طبيعة القرن الثالث عشر أكثر من فلسفة أفلاطون. فقد جاءت سنة 1000م بدون أن يفنى العالم كما كانت التنبؤات السائدة.
تنبؤات سفر الرؤيا بدأت تتبخر، وبدأت تفيق أوروبا من سبات القرون الوسطى، وتتنبه إلى طبيعة العالم الذي تعيش فيه. لذلك، طفت فلسفة أرسطو إلى السطح. وكان على توماس الإقويني، تنصير أو تمسيح أرسطو. أي فهم فلسفته في ضوء التعاليم المسيحية. وهو ليس بالعمل الهين، وخصوصا إذا علمنا أن أفكار أرسطو ليست مسيحية بالمرة، مثل:
1- الأرض أبدية لا خالق لها.
2- الإله لا يبالي بالإنسان ومصيره.
3- الروح ليست خالدة وقد تفنى
4- الهدف من الحياة هو السعادة
5- الكبرياء فضيلة، والتواضع رذيلة
بالطبع ليس من المستغرب أن نجد أعمال أرسطو كانت محظورة في جامعة باريس عام 1210م. وأيضا أعمال توماس الإقويني، رفضت هي الأخرى في جامعات باريس وأوكسفورد بعد وفاته مباشرة.
كتب توماس الإقويني ما يزيد على الأربعين كتابا. أهم الأعمال، موسوعتين. "سوما ثيولوجيا" و "سوما كونترا جينتيلز". وهما بمثابة صروح فكرية جبارة.
كانت مهمة توماس الوفاق بين أرسطو والمسيحية. وأيضا الوفاق بين العقل والإيمان. وهي مشكلتنا في العالم الإسلامي اليوم. كما أن توماس قد تعرض لمشكلة الفرد والنوع أو الخاص والعام التي أشرنا إليها سابقا.
بالنسبة لقضية الفرد والنوع أو الفرد والمجموع، إستفاد توماس من حل أرسطو. مفهوم النوع، الإنسانية مثلا، لا هي صورة ولا هي حالة عقلية. هي شئ مطمور في جوف شئ معين. الإنسانية شئ مطمور داخل الأفراد ولا يمكن إيجادها بدون الإنسان نفسه.
العقل البشري له قدرة على التجريد. بسبب قدرته على إدراك التشابه الموجود في الطبيعة. هذا التجريد، يصبح تصور أو فهم. وبذلك وجد توماس الإقويني الحل لمشكلة الفرد والنوع، أو الخاص والعام. الإنسانية هي مجرد تصور أو فهم، لا توجد في الطبيعة، وإنما توجد فقط داخل رؤوسنا. الجدير بالذكر هنا، أن حلا مشابها جاء به بيتر أبيلارد (1079-1142م)، 120 سنة سابقة.
بالنسبة لمشكلة العقل والإيمان، بدأ توماس في التفرقه بين الفلسفة والثيولوجيا. الفلاسفة تستخدم السببية الإنسانية فقط. الثيولوجيون، أي رجال الدين، يستخدمون ما نزل به الوحي وما جاء بالسنة المطهرة كبراهين دامغة صحيحة.
إلا أن توماس الإقويني يفرق بين إيمانين. إيمان مطلق خالص، وإيمان طبيعي يمكن أن يفسر بالعقل. الإيمان الأخير هو الإيمان الذي تتطابق فيه الفلسفة مع الإيمان.
عندما يعجز العقل عن تفسير ظاهرة أو إجابة سؤال ما، مثل سؤال "ماذا كان يوجد قبل خلق هذا العالم؟"، هنا يأتي الإيمان لكي يجيب على هذا السؤال.
معظم فلسفة توماس الإقويني، تنصب على الإيمان الذي يعتمد على العقل، أي الإيمان الطبيعي. من هذه الفلسفة، برهان وجود الله بالمنطق. وكان لتوماس خمس براهين لإثبات وجود الله. ثلاثة منها متشابة. البرهان الثاني يقول الآتي:
في عالم الحواس، نجد فاعل ومفعول. ولا نجد فعلا بغير فاعل، أو شيئا قد وجد من نفسه. سلسلة الفاعل والمفعول، أو السبب والنتيجة، لا يمكن أن تستمر هكذا إلا الأبد. ولابد لها أن تتوقف عند نهاية معينة. إذا الغينا السبب، فيجب أن نلغي النتيجة. وإذا الغينا السبب الأول، فسوف تلغى الأسباب الناتجه عنه، ومن ثم يلغى كل شئ. إذن من الضروري وجود السبب الأول وهو الله.
برهان توماس يشبه نظرية الدومينو. فهو يقول ببساطة، أنه إذا كانت توجد سلسلة من الأسباب والنتائج، هذه السلسلة يجب أن تنتهي بمسبب، هو نفسه ليس نتيجة لسبب آخر. وإلا أصبحت السلسلة لانهائية، وهذا غير معقول في نظر توماس.
برهان توماس الإقويني وجد معارضة من بعض الفلاسفة أمثال دافيد هيوم في القرن الثامن عشر، وخصوصا مقولته بأن الأحداث تأتي في تسلسل، ومقولته بأن التسلسل اللانهائي مستحيل.
نلاحظ هنا أن كل براهين توماس، بخلاف برهان أنسيلم، تبدأ من الآخر، من النتائج. أي طريقة أرسطو في البرهان وإلتزامه بنتائج التجربة والمشاهدة. وهو أسلوب يختلف عن أسلوب أفلاطون في البرهان الذي يبدأ بالفروض والبديهيات ثم يصل منها إلى النتائج.
فلسفة توماس الإقويني، مثل فلسفة أرسطو، تؤمن بأن الوجود لم يخلق هباء، وإنما يسير نحو غاية نبيلة معينة. وهذا يتضح في كتابه الأخلاق. فنحن نختار أهدافنا، ونختار الطرق التي توصل لهذه الأهداف. أعمالنا لها غاية، قد تكون طلب الصحة أو الثروة أو الجمال أو الواجب، ...الخ. هذه الأهداف، لها علاقة بهدف أسمى مطلق يعطي قيمة للأهداف النسبية. وإلا وصلنا إى مالانهية، وهذا غير ممكن. نلاحظ هنا أسلوبه في برهان وجود الله.
إذا أردنا الإختيار الحق، علينا أن نعرف الهدف الأسمى. أرسطو يقول أن الهدف الأسمى هو السعادة. لكن توماس يقول بأن هذه السعادة يجب أن تكون أبدية حتى تكون مطلقة. لذلك تكون سعادتنا متوقفة على إختيارنا الحق، وهذا يتوقف على معرفتنا للخالق.
ثم ينزل الستار على العصور المظلمة، ويأتي عصر النهضة بعلماء وفلاسفة مثل روجر باكون (1212-1292م)، وجون دونس سكوتوس (1265-1307م)، ووليام أوكهام (1280-1349م)، وجون بوريدان (1300- 1358م).
هؤلاء الفلاسفة مهدوا الطريق نحو أسلوب جديد في التفكير في القرنين التاليين. فنجد نيقولا كوبرنيق (1473-543م)، جوهانز كبلر (1571-1630م)، جاليليو جاليلي (1564-1642م)، ووليام هارفي (1578-1657م). مثل هؤلاء وغيرهم من الفنانين والسياسيين هم الذين مهدوا لعصر جديد مشرق للإنسانية.
You need to be a member of poetsofottawa3 to add comments!
Replies