قديماً قال كعب بن زهير:
ما أرانا نقول إلا رجيعاً
ومعاداً من قولنا مكروراً
وقبله قال عنترة العبسي في مطلع معلقته الجاهلية:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وفي البيتين إشارة إلى التشابه في المعاني، وأحياناً الألفاظ، الذي نصادفه من حين إلى آخر بين أبيات وقصائد شعراء مختلفين.. وكان أسلافنا أحياناً يتحدثون عن “سرقات أدبية” لم يسلم من التهم بها حتى أمثال المتنبي، وأصبح المعاصرون يفضلون أن يتحدثوا عن “التناص” بدلاً من تهمة “السرقة”.
وقد نشرت لي عام 2004 دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة كتاباً بعنوان “بين قصيدتين” يتناول التشابه بين بعض القصائد العربية وأيضاً بين بعض القصائد العربية والأجنبية ربما من دون معرفة سابقة للشاعر المتأخر بالنص المتقدم. والصديق الشاعر محمد بن مسعود دأب منذ فترة طويلة على المقارنة في مجلة “جواهر” التي تصدر بدبي على المقارنة بين نص شعري فصيح ونص شعري نبطي في كل عدد من المجلة الشهرية.
ومؤخراً اطلعت على ترجمة إنكليزية لقصيدة بعنوان “عربة الحياة” للشاعر الروسي الأشهر الاسكندر بوشكين المولود بموسكو عام 1799. وقد قتل بوشكين في مبارزة للدفاع عن سمعة زوجته عام 1837 وعلى الرغم من أنه لم يعش سوى 37 سنة فما زال أشهر شعراء روسيا حتى اليوم.
والقصيدة من ترجمة أي برجز ونشرت في كتاب في عام 1997. تقول القصيدة:
عربة الحياة
على الرغم من أن لها صريراً أحياناً بسبب الحمولة،
تظل عربة الحياة تجري من دون اهتزاز يذكر
يجري بنا الوقت الرمادي طوال الطريق
فهذا السائس لا يبرح كرسي القيادة أبداً
نصعد إلى العربة عند الفجر
مليئين بالشيطنة وصرخات الابتهاج
رافسين الحياة الخاملة بازدراء
ونحن نهتف: “هيا تحرك، هيا اسرع”!
ولكن عند منتصف النهار نكون قد فقدنا الحماسة
وشعرنا بالعربة تهتز وترتجف
المرتفعات مخيفة، والوديان السحيقة تصيب المرء بالدوار
فنهتف: “هدئ السرعة، أيها الأحمق”.
وتمضي العربة حول المنعطف
وبحلول المساء نكون قد تعودنا على وتيرة السير
وبرأس محني من الشعور بالنعاس نمضي إلى آخر الرحلة
وعربة الحياة تساق من دون توقف.
وهناك قصيدة بعنوان “المرتقى” أو صعود الطريق للشاعرة الإنكليزية من أصل إيطالي كريستينا روزتي المولودة بلندن عام 1830 والمتوفية فيها عام 1894 تتناول موضوعاً مشابهاً.
وروزتي تنتمي إلى عائلة شهيرة في عالم الأدب والفن وأخوها الأكبر دانتي جبرائيل كان من مؤسسي حركة “أخوة ما قبل رفائيل”.
والقصيدة تتكون من ثمانية أسئلة وأجوبة وتقول:
المرتقى
هل تلتوي الطريق في صعود كل المسافة؟
نعم، حتى أقصى نهايتها
هل ستستغرق رحلة اليوم، اليوم بكامله؟
نعم، من الصبح إلى الليل
ولكن هل يوجد مكان للاستراحة في الليل؟
نعم، سقف عندما تهبط ساعات الظلام ببطء
هل يمكن للعتمة أن تحجبه عن ناظري؟
كلا، لا يمكنك أن تخطئ ذلك النُّزُل
هل سألتقي فيه بمسافرين آخرين في جنح الليل؟
نعم، أولئك الذين سبقوك
هل عليَّ أن أطرق أو أنادي عندما أصبح بمقربة منه؟
لن يتركوك تنتظر خارج الباب
هل سأجد راحة، أم أسافر في مشقة وضعف؟
سوف يكون المجموع حصيلة الجهد
هل ستكون هناك سُرُرٌ لي ولكل من يطلب؟
بالتأكيد، سرر لكل الذين يصلون.
فالشاعرة تتحدث عن رحلة الحياة والنزل ليس سوى الموت الذي ترى الشاعرة أنه يجمع بين الموتى ويكون الحساب حسب حصيلة الجهد، أي العمل في الدنيا أو رحلة الحياة.
وبعد القصيدتين الروسية والإنكليزية دعنا ننتقل إلى قصيدة عربية معاصرة بعنوان “في المركبة” للشاعر اليمني الدكتور محمد عبده غانم المولود في عدن عام 1912 والمتوفي بصنعاء عام 1994 وهناك مثواه الأخير رحمه الله. وهي قصيدة أشاد بها عدد من النقاد منهم الدكتور عبدالعزيز المقالح وترجمها إلى الإنكليزية الدكتور غازي القصيبي وآن فيربانك. وتقول القصيدة:
في المركبة
قفي بي قليلاً، قفي بي قليلاً
قفي بي فإني أريد النزولا
مُرِي عجلاتك ألا تدور
وأن تتوقف حيناً ضئيلاً
ولو ساعة في الزمان الطويل
وإن أوشكت ساعهُ أن تزولا
قفي بي فإني أريد المسير
علي قدميَّ أشق السبيلا
لقد سئمت قدماي الركوب
فما أن تسيران دونك ميلا
ولِمْ نتلازم طوال الطريق
ألا نتفارق حتى قليلا
أما من رحيل بدونك حولي
كرهت لأجلك هذا الرحيلا
أمركبة أنت حتى أقول
قفي بي أم ليس لي أن أقولا
أمركبة أنت أم أنت سجن
أعاد الرحيل ضياعاً طويلاً
قفي بي أفكر في رحلتي
وأطلب إن شئتُ عنها بديلا
تقولين فكر خلال الرحيل
وهل شلَّ إلا الرحيل العقولا
قفي بي قفي بي ولو لحظة
لأرتاد في القفر ركناً ظليلا
وأسأل إن شئت إما الطيور
وإما الزهور وإما المسيلا
وإن لم أجدها فكانت سرابا
وكان البديل يباباً وبيلا
أو ارتدتها فوجدت الجواب
لديها، وإن أسعفت، مستحيلا
نواصلْ مسيرتنا ـ إن أردتِ
وإن عدتِ سجناً وعدتُ النزيلا
فالقصائد الثلاث تُشبِّه الحياة برحلة في عربة تواصل مسيرتها على الرغم من إرادة الراكب، وهو هنا الشاعر أو الشاعرة. وأغلب ظني أن (دورتي( لم تطلع على قصيدة بوشكين ولا اطلع غانم حسب علمي على القصيدتين السابقتين ولن أستغرب إذا اكتشفت أن هناك قصائد أخرى ومن لغات مختلفة تتحدث عن الحياة كرحلة في عربة لا تتوقف.
Comments