الجمعة, 25 فبراير 2011 01:19
لم يعد يجادل أحد في ان حشرجات النزع الأخير لأنظمة الاستبداد العربيّة الهلعة أعجز من ان تستطيع صدّ رياح التغيير الجارفة التي تعمّ أرجاء بلاد العرب. ذلك أضحى في عداد المستحيلات.
فقد تحالف الشعب مع التاريخ وحسما أمرهما، وأشهرا بما لا يدع مجالا للغموض قائمة الرؤوس التي تعفّنت وحان رحيلها. وبينما تنحبس الأنفاس لمعرفة المدى الذي ستمضي اليه الثورة في هذا القطر أو ذاك، وهو ما يستحق اجلاء النظر فيه بتعمق في ضوء ما ستحدثنا عنه القادمات من الساعات والأيّام؛ يبرز التساؤل عن الساحة التالية الأكثر نضوجا للثورة والتغيير .
وفي مجرى تسابق شباب اليمن وليبيا والبحرين والجزائر وغيرها من البلاد العربية، لنيل شرف الريادة، أسوة بنظرائهم في تونس ومصر، كانت ليبيا يوم 17 شباط/فبراير على موعد مبكّر مع الربيع، واعلان وفاة النظام الخائب الذي فكّك الدولة الليبية وبدّد ثرواتها الهائلة، وأمعن في اذلال وقتل الشعب الليبي، وحوّله الى 'أجراء' في حظيرة السفّاح وأولاده، الذين مأواهم زنازين محكمة الجنايات الدولية. وبعد ليبيا أو قبلها، ترشّح التنبؤات اليمن كساحة التغيير الوشيك التالية. والأسباب عديدة: الطبيعة المركّبة للأزمة بكلّ مكوّناتها، التي تدفع بالتغيير دفعا وتلحّ عليه، وحقيقة افلاس الحكم وابتذاله وبلطجيته، فحقيقة ان الحراك الشعبي السلميّ يتواصل فعليا في الجنوب بعنفوان لعدّة سنوات، بينما تشتعل بقوّة جذوة الانتفاضة السلميّة حاليا في الشمال.
ويرسم المشهد الراهن في ميادين وشوارع المدن اليمنية، شمالا وجنوبا، معالم الاصطفاف بين معسكرين؛ معسكر التغيير والأمل بمستقبل مغاير كليّة لما نحن فيه، والآخر تمثّله العصابات المنظّمة المسلحّة بعقلية الفيد المغايرة للعصر وبالهراوات والفؤوس والقنابل، ومن ورائهم مستأجروهم الجبناء. ولعلّ في استخدام ذات الأدوات الجاهلية في تونس ثم مصر وحاليا اليمن وليبيا، ما يثبت ان من طبائع الاستبداد الدونيّة والاجرام والجبن، فضلا عن عجز الطغاة عن الاتّعاظ من دروس السقوط المريع والمخزي لنظرائهم، وانهم بطبيعتهم شخوص مختلّة ذات احاسيس متكلسة قليلة الفهم، عليلة بمرض التشبث المستميت بالسلطة حتى الرمق الأخير.
ويغمر المرء شعورا بالاعتزاز بالشباب الذين تمسّكوا بمفهوم التغيير الحقيقي الجذري، الذي لم يعد سقفه مجرّد اسقاط النظام المتخلّف، بل تغييره جذريا. تجلّى ذلك في سرعة الأخذ بزمام المبادرة والدفع بمسار الثورة بعيدا عن دهاليز اللعبة السياسية، التي تعيق التغيير الحقيقي الملّبي لطموحات الشعب في الشمال، كما في الجنوب. وكذلك في الاتّساع العفوي المتلاحق لنطاق المسيرات والاعتصامات السلميّة في صنعاء وعدن وتعز والمكلا، وغيرها من المدن، بصفتها الروافع التي ستحدد معالم خارطة الطريق نحو الحرّية والتغيير. وهو ما يؤشّر الى ادراك الشباب بأن المدن والتجمّعات الشبابيّة والطلابيّة والنقابات هي الوعاء الحاضن المجرّب للثورات، التي قضّت مضاجع المستبدين على مدار التاريخ.
المؤشر الآخر على نضوج شبابنا هو استلهام سلميّة ومدنيّة الثورتين التونسية والمصرية، ومن قبلهما الحراك الجنوبي السلميّ، وفضح مكيدة النظام باطلاق يد البلطجية للبطش بالمتظاهرين. امّا العلامة الأخرى التي تستدعي الثقة بالشــــباب، من دون قلق، فتتمثّل في تناديهم العفوي لرفض الوصاية عليهم، ولتجاوز الأساليب واللغة العتيقة المتّشحة بطلاسم الأيديولوجيا وعشـــق ابرام الصفقات والتسويات الكابحة للتغيير المنشود.
وهذا الجيل النــــقي، الذي يتصدّى ببسالة للقمع والقتل، عاش سنين شبابه في ظل عهد الاذلال وفقدان الأمل، لهذا فهم أكثر منّا جرأة واقداما. وهم يناشدوننا الاّ نصــمت على الباطل، لأنه المشاركة بعينها في مباركة الاستبداد، مهما كانت النوايا حسنة. انهم يذكّروننا بالقول المأثور لمارتن لوثر كنغ: 'على التاريخ أن يسجّل أن المأساة الكبرى في هذه الفترة من فترات التحوّل الاجتماعي لم تكن بسبب الضجيج الصارخ الصادر عن أولئك القلّة من الاشرار، ولكنها نتاج للصمت المطبق للكثرة الصامتة من الناس الطيبين'.
ولوضع الأمور في نصابها، فان التغيير المشوّه الذي لا يلبّي جوهر القضية الجنوبية، التي سبق وأن أعلنت القوى الوطنية في الشمال الاعتراف بها، والالتزام بمضامينها وحلولها، ليس سوى اعادة انتاج ذات الأزمة، وافراغ خطير للتغيير الحقيقي من أي محتوى. فازاحة النظام، كأولوية جامعة ملحّة، ليست سوى نصف المشكلة، بينما يتمثّل نصفها الثاني في تحقيق التغيير الجذري والشامل، الذي يشكّل بدوره شرطا لايجاد الحلول لكل مشاكل وأزمات البلاد، وفي مقدمتها القضيّة الجنوبيّة العادلة. وبما يمكّن من التفاوض الندّي بين الشمال والجنوب على الضمانات الدستورية والهيكلية لتأمين استعادة الجنوب لهويته المغدورة؛ استنادا الى قاعدة ان الأزمة الراهنة في اليمن هي أزمة شاملة ذات طبيعة مركّبة، أسّها الجوهري ان الوحدة السياسيّة الموقّع عليها في 22 ايار/مايو من العام 1990 بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية، ومن خلال نهج الضم والالحاق والفيد والحرب، أجهضت وأفشلت.
ولعلّ نظرة متفحصّة عقلانية ومسؤولة لمكوّنات المشهد السياسي الماثل أمامنا، كفيلة باقناع الذين لا زالوا يراهنون على قدرة رأس النظام على الاصلاح والحوار؛ بأنهم كمن يشتري الوهم والسراب. فكلما استمرّ صالح في السباحة وحيدا ضد التيّار الجارف، وفي مهرجانات الأصهار ومقاولي الأنفار العبثية، التي جرّبها غيره من قبله ولم تنفعه، والتي تحضّ جهارا على الفتنة واثارة النعرات البدائية، وتأجيج مشاعر الحقد على كل ما له صلة بالمدنيّة، كلما تيقّن افلاسه الاّ من ذات الهذيان العقيم الذي انتج على مدى ثلاثة عقود كبيسة ما يمكن تسميته بــ'اللادولة'، والتي تجاوزت التعريف المتداول للدولة الفاشلة بمراحل. ويثبت خطابه الذي يبشّر بالفوضى، على قاعدة أنا ومن بعدي الطوفان، الدرجة المتقدمة من الخطورة التي يمثّلها الرجل، الأمر الذي يستدعي تحميل الرئيس صالح شخصيا، وبدون مواربة، المسؤولية القانونية الكاملة عن الدم الطاهر الذي يراق بتعلــــيمات مباشرة منه، وبدم بارد.
وكلّما تمعنّا في دلالات توريط بعض أبناء الجنوب واستخدامهم كغطاء لعمليات أطلاق النار الحيّ واشعال مليشيات النظام للحرائق في عدن وبقية المدن الجنوبية، سنجد ان صالح يصرّ على مواصلة تنفيذ مخططه المكشوف باذكاء نار الفتنة بين الجنوبيين. وكلما اشتدّت الضغوط الداخلية والخارجية عليه، وكلما ارتفعت المطالبات بمحاكمته بصفته المسؤول عن اصدار الأوامر بسفك الدم الطهور الذي لن يذهب هدرا؛ سيلجأ الى سحب مخالبه المثخنة بالدم من أفراد الدائرة الضيقة من الأسرة والقبيلة الى الخطوط الخلفية، والزجّ بأفراد جنوبيين، أو غيرهم، لتولي المهمة الدموية القـــذرة بالوكالة.
ولتعطيل هذا المخطط يتوجب بذل كل جهد ممكن لدعوة الأخوة في السلطة المتهالكة، ومجلسي النوّاب والشورى اللاشرعيين، والمؤسسات العسكرية، لادراك ان الامساك باللحظة التاريخية والانحياز الى الشعب، مثلما حدث فعليا من قبل عدد من الشرفاء خلال اليومين المنصرمين، هو اليوم أكثر الحاحا من أي وقت آخر، وان المطلوب منهم ليس المستحيل، وانما فقط عدم السماح بتوريطهم في الأعمال الاجرامية ضد أبناء شعبهم، التي وأكاد أجزم ان كثيرين منهم ممّن أعرفهم لا يشرّفهم الاصطفاف الاّ مع أهلهم. وهي دعوة للتأمل مليّا في مصائر زملائه من الطغاة الذين سبقوه، وصورهم المخزية وهم يفرّون مذعورين، تاركين خلفهم الحاشيات الفاسدة بمفردها تلاحقها غضبة الشعب وادانة التاريخ.
' سفير وعضو برلمان سابق
نقلا عن – القدس العربي -
Comments