ترجمة الفصول الخاصة

باتفاقية أوسلو (4 وأخير)

ما يجري

على الأرض

د. أفنان القاسم / باريس

كان للطنطنة العالمية التي جرت حول عودة عرفات إلى غزة هدف واحد أوحد: اعتقاد العالم أجمع أن القضية الفلسطينية قد وجدت حلا نهائيا، وأن فلسطين تتلخص بهذين الثقبين اللذين هما قطاع غزة ومنطقة أريحا، واللذين سيقيم عرفات عليهما دولته. ولأول مرة تكلم المعلقون الفرنسيون عن فلسطين كبلد يوجد، وعن رئيس لهذه الحزينة فلسطين، عرفات، الذي كانت تراقبه مروحية من الجيش الإسرائيلي، والذي خرج لتحيته جمع غفير جاء بالأحرى بدافع الفضول أو ليطلق بعضا من مكبوتاته مع شعور بالتخلص من السحق اليومي للمحتل. كان هذا الجمع يجهل أن خطة الإنهاء عليه قد ذهبت من يد إلى أخرى في اللحظة التي وضع عرفات فيها قدمه على أرض فلسطين، ولم يكن الناس يقدّرون النتائج التي ستتبدى عنها. كانوا يظنون أن فلسطين قد تحررت بالفعل بينما كانت الطريق قد فتحت بما لا يقبل الجدل لتطبيق هذه الخطة التي لم يكن اتفاق أوسلو 1 سوى الوسيلة، فجرى تقديمه بشكل مضحك، وكأنه أفضل ما يمكن الحصول عليه. كان عرفات يعرف أن العودة إلى غزة لا تعني على الإطلاق أن كل شيء قد تم حله، وكان عليه أن يثبت للإسرائيليين أنه رجل الساعة. وليرضيهم، كان عليه أن يعتمد على كل الأوغاد الذين صنعهم تحت سلطته في تونس، وذلك بالعمل على مستويات ثلاثة هي: الإسلاميون والمستعمرات ورجال

الأعمال.

الإسلاميون:

بعد أن جرى تشجيع الفصائل التي تدعى إسلامية من طرف الإسرائيليين في البداية، كانت هذه الفصائل مزروعة جيدا عند رجوع عرفات إلى غزة. وهذا ما كان الإسرائيليون يسعون إليه، أن يكون هناك من يعارض عرفات، من يأخذ سلطة منظمة التحرير، وخاصة من يجعل من حركة التحرر حركة دينية تقاتل باسم الله ولأجل الله، وترمي إلى إقامة دولة إسلامية وليس دولة علمانية تنشأ حسب معايير ديمقراطية، ومن أجل هذا سمح الإسرائيليون ببناء الجوامع في كل مكان والمؤسسات الدينية الأخرى، وغضوا الطرف عن خطب الشيوخ اليومية الذين لم تكن لهم في زمننا أية أهمية، والذين كانوا محط سخريتنا: "تحت اللفة زفة!" كنا نقول عنهم. ولكن أكثر ما في الأمر، عندما ترك الإسرائيليون للسعوديين التحكم بهذه الفصائل بالمال. وهكذا تم تقنين غضب الشعب الفلسطيني، وتم اقتياد الشباب الذين كانوا في وضع يرثى له دون عمل ودون مستقبل. وأكثر الأكثر، تم ما تسعى الدولة العبرية إليه عندما رأت نفسها كدولة دينية بعين الفلسطينيين الذين يطالبون بإقامة دولة مشابهة، دولة إسلامية.

إلا أن إسرائيل التي كانت تعتقد بسيطرتها على هذه الحركة المسماة إسلامية وذلك بمراقبتها عن قرب، وتعتقد بكونها ضالعة بالعمل المشبوه مع السعوديين وذلك بمراقبة مواردها المالية، وبرمي الذين يعبرون عن غضبهم بطرق أخرى غير الصلاة في المعتقلات (كالشيخ ياسين مثلا رئيس حماس)، رأت نفسها متجاوزة بالدعم الشعبي لهذه الفصائل - دعم مترجم ليس فقط بالحلم القديم الذي يقول إن الله سيخلص الناس في يوم قريب قادم من الاحتلال ويفتح لهم الطريق إلى يافا وحيفا واللد والرملة وكل فلسطين، ولكن أيضا بالسلاح وذلك بتحولهم إلى قنابل إنسانية. حقا لقد نجح الإسرائيليون في انتزاع تسييس الناس، وتعميم تصورهم الدائم، والذي هو هوية عرقية ودينية، ولكن أبدا استئصال حلمهم باسترجاع كل فلسطين بعون الله والتضحية بأنفسهم. إذن الرجل الذي عمل الإسرائيليون كل ما في وسعهم للتقليل من نفوذه سيكون هو من يضع حدا لهيمنة حماس والجهاد الإسلامي. هذا هو الوجه الخفي من اتفاق أوسلو 1، ومن أجل هذا، بين مرام أخرى طبعا، تفضل الإسرائيليون بالذهاب إلى العاصمة النرويجية.

ومع ذلك سيلتزم عرفات، الثعلب الفلسطيني، بالذهاب في هذه الطريق، كما هو عهده مع شعاره: "أطلبوا مني كل ما تريدون، ولكن اتركوا لي اختيار الوسائل التي تؤدي إلى ذلك!" عين شخصا أقل ما يمكن القول عنه فاشيا على رأس جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة، محمد دحلان (1994-2002)، هذا الجهاز الذي لم تجر الإشارة إليه في اتفاق أوسلو 1، والذي تمت فبركته قطعة قطعة على يد الموساد والسي آي إيه، وأنفقت عليه ملايين الدولارات وعلى أفراده، من أجل خنق كل مقاومة وإخضاع كل مقاوم، ثم راح يساوم قادة الحركة الإسلامية كما لو أراد أن يقول لهم: قائد جهاز أمني قادر على سحقكم، ولكني شخصيا أفضل حل مشكلتي معكم بشكل مباشر ومسالم، إذن تعاونوا واعتبروا أنفسكم محظوظين!

كان عرفات يلجأ إلى طرقه المعروفة من الجميع، الفساد بالدرجة الأولى ثم الحِذْق عندما يماري في أعين هذه الفصائل القوية إمكانية اقتسام السلطة معه، لكنه لم ينجح، لأن حماس والجهاد الإسلامي يعيان كفصيلين ما لهما من قوة، ويريدان، حتى ولو لم يقولا ذلك صراحةً، كل السلطة. فبدأ قائد جهاز أمنه الدموي برمي المنخرطين الإسلاميين في السجن دون أن يجرؤ مع ذلك إلى الذهاب حتى إشباع رغبات الإسرائيليين: الهجوم عليهم - لهذا أقيم البوليس "الجبار" كما يقضي به اتفاق أوسلو - ومصادرة أسلحتهم. وبعبارة أخرى، تصفية الحركة الإسلامية بالنار والدم. ستكون في الواقع نهاية عرفات لما لفصائل الله هذه من دعم شعبي ونهاية اتفاق أوسلو، مما لا يناسب الإسرائيليين في شيء طالما لم تُحل أية مشكلة في هذا الاتجاه، ولا العرفاتيين، لأنهم وافقوا على كل شيء من أجل أن يكون حكمهم، وخاصة من أجل أن يدوم.

ستستأسد اللجان واللجان التحتية الإسرائيلية-العرفاتية من أجل إيجاد حل، ستصادر أموال هذه الفصائل الإسلامية، ستهاجم نتيجة لذلك اقتصادا يعيل كل الغزيين، وستوجد اقتصادا موازيا، وذلك ببناء الفنادق السياحية والأملاك الخاصة بالمقربين لدى عرفات ومطار من أجل طائرة عرفات الوحيدة وميناء لأسطول عرفات في المستقبل. ستفتح إسرائيل بابها على دفتيه لليد العاملة الرخيصة، وستسمح بإنشاء مصنعا أوحد للمشروبات الغازية في غزة. فلتحي الصناعة العرفاتية! ومع ذلك، طالما أن الله إلى جانب الشعب، لم يتخل الشعب عن شيء، وازداد الحقد على عرفات والإسرائيليين. فتغير التكتيك: انتهى عهد المن والسلوى، توقف بناء الفنادق والميناء، وتم هدم المطار فيما بعد ومعه طائرة عرفات الوحيدة. لم تعد هناك بحبوحة اقتصادية، ومن جديد، عادت مخيمات اللاجئين ترزح تحت كاهل البؤس، وتضاعفت معاناة السكان، كما وعادت سياسة القمع بقيادة قائد جهاز الأمن الفاشي كما لم تكن من قبل. لكن توقف كل شيء فجأة عندما هوجمت السجون من طرف رجال مسلحين، وحرر السجناء بعد مقتل عدد من أفراد البوليس الفلسطيني "الجبار". لو حقق عرفات شيئا ما في ميادين أخرى غير ميدان الأمن لشن حربا أهلية ولكسبها، لكن كل شيء كان راكدا، لم يكن هناك انسحاب فعلي للجيش الإسرائيلي، ولا أي تقدم يذكر في تطبيق اتفاق أوسلو. لم يكن باستطاعته تصفية الحركة الإسلامية وادعاء كونه محرر فلسطين. فوجد الإسرائيليون الذين كانوا يريدون التخلص من الإسلاميين مع احتفاظهم بكل امتيازاتهم على الأراضي المحتلة، وجدوا أنفسهم مضطرين لاستعادة الوضع: اتفاق أوسلو يعطيهم الحق، بتغيير الطريقة طبعا، بما أنهم لم يتوصلوا بعد إلى تصفية القضية الفلسطينية، وللمجيء إلى نجدة رجلهم، ثعلب الثعالب، إذ لم يزل له دور يلعبه.

لا شيء، أبدا لا شيء كان يرغم الإسرائيليين على تحرير الشيخ ياسين، قالوا في شيخوخته حجة، وفي مقامه كرجل دين، وفي صحته، ولكن على ما يبدو بدا الشيخ ياسين يتمتع بصحة جيدة، وقدم نفسه كرجل سياسي أولا وقبل كل شيء.

في الواقع، دشن تحرير الشيخ ياسين بداية التصعيد الذي نعيشه حاليا: كان الإسرائيليون يعرفون جيدا أن المنحى مع قائد متعنت كالشيخ ياسين سيكون منحى تشدد الحركة الإسلامية. وهم بهذا يحققون غرضين، الضغط على عرفات ليدير الأمر الواقع - تجميد اتفاق أوسلو، مماطلة، مناورة، احتيال، تمسكن، تشعوذ... الخ -، وجعل الوضع السياسي الاقتصادي الاجتماعي وضعا معقدا من المستحيل فكفكته، وما تمني عرفات الذهاب والشيخ ياسين للصلاة يوما في المسجد الأقصى سوى محض مكر ورياء. كان عرفات يعتقد جازما أن الحركة الإسلامية ستدمر بدبابات الجيش الإسرائيلي، ولكنه كعادته، أبدى من نفسه الوداعة، والانتباه الأفضل من كل الناس، ليقول براءته، ويعلق وطنيته في ساح المزايدة على الجميع. إلا أن انطلاق الانتفاضة الثانية قد دفع الجميع بقوة إلى ما لم يكن متوقعا، وعجل مجيء شارون إلى الحكم من الخطة الرامية إلى وضع حد لكل حمية شعبية، ما تبقى من حمية شعبية، كي يجري القبول بالحد الأدنى، الحد الأدنى للأدنى.

المستعمرات:

إذا لم يكن للمستعمرين سوى حليف واحد، فسيكون عرفات، لأنه منذ عودته إلى فلسطين، تضاعف عدد المستعمرات إن لم يكن تثالث. لعب لعبة العاجز أمام هذه الظاهرة، واكتفى بإدانتها شفويا. تواصل مشروع الاستيطان رغم كل شيء، واستغله عرفات ليبرر الحد الأدنى المقبول. لكن الطغمة الحاكمة في إسرائيل هي التي تنتفع منها أكبر انتفاع، والتي، كي تذهب بمراميها السياسية الخسيسة إلى أقصاها، مرامي الهيمنة على الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، تُحرك أناسا جعلوا من اللوائح التلمودية استبدادا للعقول على نحو غير سوي. وإذا أصبحت المخالطة جهنمية بين المستعمرين المستوطنين وجيرانهم الفلسطينيين، فلأن الساسة في المعسكرين يسعون إلى تفاقم الوضع في هذا السجل أيضا من أجل ألا يُسحب شيء من اتفاق أوسلو المدعو 1، وأن يكون الرجوع إلى الأمر الواقع الذي على عرفات إدارته بأي حال من الأحوال.

وزيران من وزرائه المقبولين من طرف الإسرائيليين والموافق عليهما من طرف الموساد سيأخذان على عاتقهما هذه المسألة التي هي مع ذلك من غير مخرج. ولكن بغياب حقيبة حقيقية يجدر اللعب بالمُدة، والعمل على اعتقاد الفلسطينيين أن عرفات يعمل كل ما في وسعه لدى المفاوض الإسرائيلي ليخفف من عذاباتهم. نبيل شعث من ناحية - فاسد منذ مولده، وزير "التعاون الدولي" (لقب اختير لقول "أشغال خارجية" دون المخاطرة بالتعدي على بنود اتفاق أوسلو مثلما سنرى) -، وصائب عريقات من ناحية ثانية - انتهازي مخضرم وببغاء لعرفات، وزير مكلف بالمفاوضات - سينشغلان بالمستوطنين.

الأول لأن اتفاق أوسلو يمنعه من كل شيء: "تطبيقا لإعلان المبادئ، لن تكون للسلطة الفلسطينية سلطات في ميدان العلاقات الخارجية: إقامة سفارات في الخارج، قنصليات أو أي نوع من البعثات أو المناصب في الخارج، إقامة بعثات كهذه في قطاع غزة أو منطقة أريحا، تعيين أو اعتماد مِلاك دبلوماسي أو قنصلي، قيام بمهام دبلوماسية" بند VI فقرة 2 أ. إذن وزير أشغال خارجية بدون أشغال خارجية لم أر واحدا في حياتي! ليس له في إطار وظائفه الحق في معالجة أي أمر كان إلا مع الإسرائيليين، وتثبت ذلك اتصالاته بخصوص المستعمرات.

الثاني لأن التفاوض مرتبط بوظيفته، مفاوض لعرفات ومفاوض ليس كالآخرين، بما أن "والده" المالي يملي عليه ما يجب قوله بالحرف الواحد، وهو يقوله بإنجليزية معتبرا نفسه شكسبير زمانه! والرئيس التاريخي، والرئيس التاريخي! يفاوض الإسرائيليين بلعق نعالهم ليخفف قليلا من تشددهم، لكنه يتركهم بوجه عابس دون أن يوفرهم نقدا وتوبيخا. هذا ما يدعى بالتعهر في السياسة، والذي يمارسه القادة الفلسطينيون دون حياء مع زملائهم الإسرائيليين. يتكلم عريقات عن المستوطنين للصحفيين - دائما بلغة شكسبير من فضلكم - ولا يسهو عن ترداد "الرئيس التاريخي" عند كل جملة إن لم يكن عند كل كلمة، كما لو كان عرفات رئيس المستوطنين. وهو رئيسهم من الناحية الأخلاقية، لأن لا الفهلوي شعث ولا الببغاء النموذج ينجح في كبح برنامج التوطين. وفي الأخير، ككل متحضر من ترمسعيا، تلك القرية المنسية من عندنا، يأتي شعث عابس الوجه من وراء ميكروفون معد لتلك المناسبة ليدلي بتصريحه كزميله الببغاء بلغة شكسبير. وعلى طريقة شيخ إنجليزي بطربوش أبيض، يتلفظ بكلامه المتفاصح ظنا منه أن الصحفيين يسمعون له أو يهتمون بما يقول، عندما يكون كل ما يحكيه عن أوامر أعطاها لزميله الإسرائيلي ليس إلا عذرا كاذبا. أمام الإهانة اليومية التي يوجهها المفاوض الإسرائيلي، وخاصة منذ ذلك اليوم التراجيدي "للنييت" بخصوص "المستزرعات" - لا يقولون مستعمرات في اتفاق أوسلو ولا مستوطنات - مصطلح أقل ارتباكا لمتحضري ترمسعيا الذين هم زبانية عرفات - يقبلون بوجود المستعمرات كقطع غيار: ترحّلون عددا معينا وبالمقابل نتخلى لكم عن لست أدري كم كيلومتر من الحدود! يا للعار! سيجري تطوير هذه الفكرة في مفاوضات جنيف غير الرسمية بين الجندي الشجاع الباسل الأشقر ذي العينين الخضراوين واللدغة الباريسية غو غو غو... ياسر عبد ربه، كما سنرى ذلك عند معالجتنا لهذا الفصل.

إذن، فيما يخص هذا المصراع، سيسير تزايد خطورة الوضع العام معا وتفاقمه في الأراضي المحتلة، إلا أن عرفات سيحاول إنقاذ على الأقل الوضع الاقتصادي. إنه الباب الوحيد الذي يتركه له اتفاق أوسلو مفتوحا، ليس دون قصد سيء من طرف الإسرائيليين طبعا.

رجال الأعمال:

الكل يعلم أن اقتصاد الأراضي المحتلة يتوقف تماما على الإقتصاد الإسرائيلي، وأن هناك سيطرة كلية لإسرائيل في مادة التجارة و"التطور". تتحكم إسرائيل في النقد، وفي سوق العمل، وفي الماء، وفي الكهرباء، وفي انتقال البضائع والأشخاص. وتمثل الأراضي المحتلة كنزا لا يقدر بثمن لاقتصاد بلد نجمة داوود، وهذا في الاتجاهين، بصفتها منطقة محتلة تستهلك، وبكونها توابع للمصانع الإسرائيلية تنتج. وبالتالي هناك أرباح دوما لٌلإسرائيليين الذين يصرّفون بضائعهم المصنوعة على أرضهم والذين ينتجون بضائع على الأرض الفلسطينية مع يد عاملة رخيصة، هذه البضائع التي ستباع في الأراضي المحتلة مثلما ستباع في إسرائيل بفائض قيمة مرتفع كمكافأة. وبالطبع ترك الإسرائيليون عرفات يعمل اقتصاديا ما يريد عمله، لأن كل خطوة لدعم الاقتصاد في الأراضي المحتلة هي في الواقع في صالح إسرائيل. لم تنطلق الانتفاضة الثانية، ولم يأت شارون إلى الحكم بعد. تراخى الطوق المطوق لسكان الأراضي المحتلة عن أعناقهم، ولم يستعمل المستعمرون الإسرائيليون يأسهم بعد كوسيلة قمع ضد هؤلاء السكان أنفسهم. سيُرفع الحصار من وقت إلى آخر في المستقبل من أجل هدف تجاري لا إنساني: تشجيع اقتصاد الأراضي المحتلة قليلا من أجل إنعاش الإقتصاد الإسرائيلي الذي كانت لحرب الحجارة عليه نتائج كارثية. ومن يقول ازدهارا يقول تمويلا جيدا للجيش، إنهم الفلسطينيون الذين يمولون بشكل من الأشكال الجيش الذي يقمعهم، مع رضاء عرفات بالطبع.

كما يشترط إذن اتفاق أوسلو 1 بند VI، لم يكن للعرفاتيين أية صعوبة يواجهونها من أجل الذهاب إلى التوقيع على اتفاقات اقتصادية ومساعدات ومن أجل تطبيق خطط التطوير المناطقية. وكما نرى، هناك طموح بخصوص كل بلدان المنطقة يتجاوز الحدود الفلسطينية. هذه اللُّجة الاقتصادية التي تحلم بها إسرائيل دون أن تتخلى مع ذلك عن سيطرتها على الأراضي المحتلة، وهذا بفضل عرفات. عرفات الذي هو هنا لخدمة اقتصادها، الذي هو هنا لخدمة حكمها. حتى إنه هنا للذهاب إلى أبعد مما يتمنى الإسرائيليون الحصول عليه، عندما يحمل على عاتقه الرواتب وكل المسئوليات الأخرى والالتزامات العائدة إلى قبل النقل (نقل السلطات... إنهم دوما هنا ولكن بالاختصار...) مثلما يمكننا أن نقرأ تحت الفقرة أ 1 من البند XXII: "نقل كل السلطات والمسئوليات إلى السلطة الفلسطينية المشترط عليه في الملحق II، يتضمن كل الحقوق والمسئوليات والالتزامات المرتبطة بأفعال أو إسقاطات حصلت قبل النقل. تتوقف إسرائيل عن حمل كل مسئولية مالية بخصوص هذه الأفعال المذكورة والإسقاطات وتتحمل السلطة الفلسطينية كل المسئولية المالية لهذه الحالات ولعملها العائد عليها."

وأكثر من هذا، سيذهب عرفات حتى دفع كل مطالبة قضائية تقدم لإسرائيل، فقرة ب من البند نفسه، ومع ذلك على البلد الذي يحتل بلدا آخر أن يتحمل كل مسئولية مالية تعود عليه حتى بعد انسحابه من هذا البلد، وحالة ألمانيا النازية بهذا الخصوص مثالا دامغا. لم تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة، ومع ذلك عرفات من سيدفع الفواتير الإسرائيلية، حتى إنه جاهز للذهاب إلى المحاكم في مكانها، فقرة ج من البند نفسه. الافتتان الإسرائيلي كامل: بخصوص الأرض إسرائيل لا تعيد شيئا، وبخصوص المال تأخذ كل شيء: كم هي الحياة جميلة! ومع عرفات، كم هو العالم جميل!

ستدفع بلدان الخليج والسعودية حصتها وكذلك البلدان المانحة الأوروبية، ليس بالقدر الذي يأمل عرفات، ومع ذلك. يبقى له رجال الأعمال ابتداء بالفلسطينيين الذين يقيمون في الأردن وكل الاقتصاد الأردني بين أيديهم. خطوة هامة ترمي إلى هيمنة إسرائيل الاقتصادية مرورا بعرفات خارج حدودها. لقد كُلف أسعد عبد الرحمن، صديق من أصدقاء الطفولة، وأحد وزراء عرفات، بجمع كل القبيلة المالية في عمان بحضور الرجل ذي الكوفية الأبدية. كانت المهمة صعبة، فقد أوجب رجال الأعمال هؤلاء ضمانات وإلا ضاعت أموالهم، وإسرائيل هي التي أعطتهم أفضل الضمانات، وذلك بإشراكهم مباشرة في وزارة الاقتصاد والمالية. كان عرفات راضيا تمام الرضى، فقد أتم مهمته "التاريخية" بتطبيقه حرفيا البنود المالية لاتفاق أوسلو. وتمت، بعد ذلك، لقاءات أخرى بين رجال أعمال فلسطينيين وإسرائيليين. أنسى الناس الازدهار في الأراضي المحتلة، مؤقتا على الأقل، المأزق السياسي الذي توجد فيه المفاوضات المتعلقة بتطبيق البنود حول الانسحاب العسكري. وأراد عرفات أن يلعب لعبة الوطني عندما أعدم رميا بالرصاص، كما هي الحال في كل نظام بربري، بعض المساكين بتهمة التجسس لصالح "العدو". ولكن أي عدو؟ الإسرائيليون؟ وأولئك الذين يتعهرون ليلا نهارا على أحذيتهم، أليسوا هم الجواسيس الحقيقيين؟ لماذا لا يعدمهم؟ يعمل من الجواسيس الحقيقيين أبطالا ومن المتسكعين الذين لا قانون لهم ولا مأوى جواسيس ويعدمهم ليقول للناس: أنا الوطني الوحيد الذي عليكم أن تضعوا فيه كل ثقتكم. ولكن في ظهورهم يرتكب أشياء أسوأ من كل ما يمكن كل الجواسيس ارتكابه معا. هذا أيضا جزء مما أدعوه التعهر السياسي، والذي آخر أفعاله بنّاء: يصف قريع بالجرائم مذابح جيش شارون الذي ارتكبها ضد مدنيي رفح، وفي الغد يمتدح هذا الشارون نفسه محييا شجاعته للانسحاب من بعض المستعمرات التي لا تشكل في الواقع أي عائق أمام تنفيذ خطته الجهنمية للانفصال. وعلى الجميع أن يعلم أن جواسيس هذا القريع نفسه على صدر "اللجنة الأمريكية الإسرائيلية"، وبعبارة أخرى "لجنة السي آي إيه والموساد والمخابرات" المكلفة بتحييد كل "المنظمات الإرهابية"، هي التي تنذر طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية محددة لها الرجال السياسيين الذين عليها قتلهم بصواريخها - ومعهم تلاميذ المدارس العابرين في شوارع غزة. تعهر سياسي أيضا عندما تنعت المدعوة شهيد، ممثلة عرفات في باريس (وموسيو عرفات، وموسيو عرفات!) التي يقبّلها شيراك من خديها المنتفختين، عندما تنعت هذه الآنسة الجالسة على مقعدها مقعد "الدبلوماسية المجربة حتى العمق" جلوسا مريحا منذ أربعمائة عاما، عندما تنعت المحتل الإسرائيلي على الشاشة الصغيرة بشتى النعوت، وخارج الكاميرا تصعد في سيارة سفير إسرائيل المصفحة لتذهب معه لست أدري إلى أين. وأسوأ من هذا بكثير: عندما يدفع السفير الإسرائيلي راتبها لما تفرغ صناديق عرفات أو هو يفرغها.

وبالفعل، بدأت تلحق بعرفات المساوئ الاقتصادية عندما تبين أن إسرائيل وحدها المنتفعة من "الانفتاح" الاقتصادي. غدت الحياة أكثر فأكثر غلاء، ولم تعد الرواتب تكفي، لم تكن أبدا كافية لأجل العيش، ولأول مرة تُشن الإضرابات من أجل الخبز وليس من أجل طرد المحتل. ولكي يوقف الحركة، ذهب عرفات بنفسه بصحبة قائد المنطقة. هذا القائد، ككل الآخرين، لم يمكنه أن يرى نفسه قائدا لأجل القتل والقمع إلا بعد أن عُرض اسمه على الموساد، وبعد أن وافق الموساد عليه. عميل إسرائيلي قديم؟ حتما. وإضافة إلى ذلك يقيم العرفاتيون المحاكم ليحاكموا الجواسيس!

- ما هي طلباتكم؟ سأل عرفات المضربين.

- زيادة الرواتب، أجابوا.

أشار عرفات بإصبع الاحتقار إلى قائده.

- هذا الحمار بن الحمار هل تعرفون كم مكسبه الشهري؟ سأل من جديد.

- لا.

- قل لهم، أمر قائده وهو يصفعه.

- ثلاثمائة دولار، همهم القائد.

لم يقل كم يسرق. فقال عرفات:

- هذا القائد لمنطقة كبيرة بهذا القدر مكسبه الشهري ثلاثمائة دولار وأنتم ألف، اعتبروا أنفسكم محظوظين.

ووضع حدا للإضراب. لكن الانتفاضة الثانية جرفت معها كل شيء.

يجب ملاحظة أن اتفاقا آخر اسمه أوسلو 2 قد توصل الطرفان إليه أثناء ذلك في طابا، وتم التوقيع عليه في كعبة العرفاتيين التي هي واشنطن في 28 سبتمبر 1995 والهدف توسيع الحكم الذاتي ليشمل كل الأراضي المحتلة، ولكنه يقضي بإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي بضعة أمتار فقط حتى أبواب المدن. وكان ذلك شكلا من الأشكال التي تسمح بسير انتخابات مجلس تشريعي وتنفيذي مع نتائج، كما سبق لي وقلت، معروفة سلفا، ولكن خاصة انتخاب رئيس بالتخفيض، "رئيس منتخب ديمقراطيا": حجة تدعو إلى الضحك يقدمها الغربيون ليدافعوا عن "رجلهم" الذي تخلى عن كل شيء، كل شيء على الإطلاق، للإسرائيليين - من هنا جاء هذا الحب - وليخفوا ممارسة أحرى بواحد مثل موسوليني أو واحد مثل مبارك اللذين هما أيضا انتُخبوا "ديمقراطيا". أي واحد بإمكانه أن ينتخب "ديمقراطيا" إذا كان المرشح الأوحد حتى بصوت وحيد. وعلى عكس ما نُص عليه في اتفاق أوسلو 1، صادر عرفات من مجلسه المنتخب بالتخفيض، وما أسهل ما صادر، كل السلطة التنفيذية، وكهتلر جديد، وضع يده على الأمن والمالية.

د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الإتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 33-44.

ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك

www.parisjerusalem.net

You need to be a member of poetsofottawa3 to add comments!

Join poetsofottawa3

Ottawa International Poets and Writers for human Rights (OIPWHR)