فلسطيني (12)

شومسكي المخيب للآمال

د. أفنان القاسم / باريس

لم أتوقع أن أسمع من عالم كوني كشومسكي أحدث طفرة توليدية في علم اللسانيات أن يكون على مثل هذه السذاجة السياسية عندما قدم لنا وجهة نظره فيما يخص الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وجهة نظر لا تختلف عما نسمعه كل يوم من شطط الفكر السائد، وما يروجه كل يوم أزلام الإعلام الرسمي، وكأنهم كانوا على اتفاق مع شومسكي في حبك المهزلة، وذلك منذ البداية، فالبداية الحقيقية كانت بعد "الفيديو كونفرنس" وليس بعد منعه من الذهاب إلى جامعة بير زيت، عندما قدموه كمفكر يهودي أمريكي يساري - شوفوا واحد يهودي يتكلم ضد اليهود! - فوجهوا إليه ضربة موجعة أكثر من ضربة شرطة مطار بن غوريون، لأن ما يهمنا هو المفكر وليس أصله وفصله ومن يكون، ولأن هناك من اليهود والهنود المؤيدين للقضية الفلسطينية الملايين، وليس منهم واحد مفكر بحجم شومسكي، وكذلك لأن هناك من اليسار - إذا بقي لهذا المصطلح في وقتنا الحاضر معنى - الكثير ممن يعتبر القضية الفلسطينية قضيته، وليس منهم واحد على يسار شومسكي. ومن تقديمه بهذا الشكل الهزلي، يخدم أقلام الإعلام العربي الرسمي إسرائيل أول من يخدمون، فهي نجحت في ترجيح كفة هوية شومسكي اليهودية قبل أن تكون له هوية أخرى أمريكية أو علمية أو أكاديمية أو غيره على الرغم من كل الخلاف القائم بينهما، حتى إن هذا الخلاف لم يعد ذات أهمية، بل على العكس طرح هذا الخلاف بالشكل الذي طرحه شومسكي يؤكد قوتها وقدرتها على تنفيذ السياسة التي تختارها والتي هي في مصلحتها، لينكشف منع شومسكي من التحاور مع طلاب جامعة بير زيت على أساس أنه لم يكن دون أفكار مسبقة، فهو تحاور معهم على أي حال، ولكن بالضجة التي أُريد منها أن تكون طنانة، وترديد ما يعرفه الكل على لسان فطحل من فطاحل الكون هو تأكيد، وبالتأكيد يجري خلط الأوراق التي تسعى إسرائيل إلى خلطها أكثر، ليستمر التدويخ، وهذا هو الهدف: أن يستمر تدويخ المثقف العربي والشارع العربي والإنسان العربي.


حين حديثه عن لوبي يهودي وكارتيلات ورؤوس أموال وبورصات، لم يفهم شومسكي أنها من تشكيلات النظام الرأسمالي الأمريكي المهيمن، وأنها في تنافس دائم ما بينها في سبيل مصالحها التي أهمها الربح، وأن من بين أساطين هذه التشكيلات هناك اليهودي وغير اليهودي خاصة فيما يسمى باللوبي اليهودي الذي فيه العديد من أرباب المال والنفوذ المسيحيين والملحدين، وحتى أنا لو كنت جزءا من هذا النظام، سأرى أين هي مصالحي - يهودي أم غير يهودي هذا ليس مهما - وفي أمريكا الكثير من الأثرياء الفلسطينيين يُحْسَبون على هذه التشكيلة أو تلك. أضف إلى ذلك، وهو أهم ما يفسر الدعم الأمريكي لإسرائيل، أن إسرائيل ورقة ضغط سياسية لتمرير المشاريع العملاقة لهذه الكارتيلات وباقي التشكيلات، وليس كما يتوهم البعض أنهم هم ورقة ضغط لإسرائيل، الضغط بها لمنفعة هذه التجمعات الاقتصادية العملاقة، وبالمعية لمنفعتها، البقشيش الذي من الواجب دفعه.

في الظروف الحالية لا يمكن أبدا لفلسطين وللدول العربية أن تتحول في أعاصير الاقتصاد العالمي إلى ورقة ضغط سياسية كما هي إسرائيل، فشومسكي بسذاجة بائعي السنام قبل الجمل، يتحدث عن طيبة الأنظمة العربية في تعاملها مع أمريكا إذ لها حسبه عقلية من يعطي دون مقابل، وهو يتمنى عليها وعلى الدول الإسلامية التشدد في موقفها وعلى الأقل استغلال النفط سلاحا مزدوجا اقتصاديا وتنمويا، هكذا وكأن الأمر يمكن حله بالتمني بينما هو أعقد بكثير، أولا وثانيا وثالثا لأن الأنظمة العربية والإسلامية - بما فيها إيران وكوميديا مفعولها النووي - أنظمة فرعية للنظام الرأسمالي القمعي المهيمن، ومن قال له إنها تعطي دون مقابل، إنها تعطي مقابل بقائها ووجودها بل خلودها، وشومسكي معلمي ومعلم الكل في البنيوية يعرف أن الفرد بنية فكرية أي ينتمي إلى تيار فكري فأنا لست أفنان القاسم مثلما هو ليس نوعام شومسكي وإنما نحن البنية الفكرية التي ننتمي إليها، والشيء نفسه في الاقتصاد، ليس هذا نظاما سعوديا أو ذاك نظاما هنديا وإنما البنية الإقتصادية التي ينتمي إليها النظامان، وهي في السياق الذي نعالجه البنية التي تنتمي إليها أمريكا وإسرائيل، فكيف يريد شومسكي أن تواجه دول تنتمي إلى بنية واحدة أنفسها، لأن مواجهتها لأمريكا ولإسرائيل يعتبر مواجهة لها؟

أما ما جعلني أضحك ضحك اللقالق عندما حيا شومسكي بوش الأب الذي صمد أمام واحد متطرف كنتنياهو اسمه شامير حين طلب قرضا بعشرة مليارات دولار مقابل ذهابه إلى مدريد، وقال، بوش الأب رفض ذلك كرجل، شيء لم يفعله رئيس أمريكي من قبل، بينما ينسى شومسكي أن هذا الجلاد مجرم الحرب بوش الأب - الذي يريد تبييض أوراقه - كان قد خرج من حرب الخليج منتصرا والمنتصر يملي أوامره على العالم أجمع بما في ذلك إسرائيل التي لم يعد بحاجة إليها فيما يدعى بالسهر على أمن ومصالح أمريكا، أضف إلى ذلك أن ما نعانيه اليوم كل ما نعانيه اليوم بسبب مؤتمر مدريد، وذهاب الإسرائيليين إليه ليس لأنهم اضطروا إلى ذلك، ولكن لأنهم يعرفون ما كانت أمريكا ترسمه لهم ولدول كل المنطقة تحت نعلها العسكري والإقتصادي.

Read more…

فن إدارة الوقت الضائع في عالم عربي ضائع

د. أفنان القاسم / باريس

في عالم ضائع كالعالم العربي ليست هناك سوى إمكانية واحدة لقيادته ألا وهي التصرف بوقته ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم وعاما بعد عام وهذا ما أدعوه بسياسة الإرجاء، ولهذه السياسة سلطة زمنية هي السلطة العالمية التي هي السلطة الأمريكية، والتي تعمل بدقة متناهية حسب مصالحها الجوهرية، ما عدا ذلك كلام في كلام، عنجهية الحكام الإسرائيليين أو انبطاح الحكام الفلسطينيين أو بضاضة الحكام العرب، لأن كل شيء مرسوم في مراكز القرارات الأمريكية سلفا لسنين طويلة قادمة، والذي يبقى كيف يدار وقت العالم العربي الضائع، ولإدارته بالطبع فن يحذق فيه العقل الأمريكي أكثر ما يحذق، لأنه ذو خبرة أكثر من غيره في الهيمنة والقمع والاستغلال، ولأنه -حتى في أكثر الأوضاع لامعقولية وعبثية- ذو إدراك مذهبه أن الكليات عبارة عن تركيبات من صنع العقل، بمعنى أن العقل قادر على الإبداع أو عدمه على العدل أو عدمه على المنطق أو عدمه، و"تعديم" المنطق والعدل والإبداع عن طريق العقل هو من الخطورة الشيء الكثير والذي يؤدي إلى فقدان العقل وانعدام التوازن والطفو على سطح الأشياء، وهذا ما يجري اليوم مع الإدارة الأمريكية التي لسلطتها الزمنية سيطرة صارمة على كل مظاهر الأمم وطاقاتها المنتجة، دون أن تبدو مع هذا كنظام كلياني كما كان النظام السوفياتي، ولا كمحتل لاأخلاقي كما هو المحتل الإسرائيلي، وللعقل "الشرير" آلية العقل "الخيّر" لكن ما يفصل بينهما ويرجح كفة الأول على الثاني هو امتداده العملي المتمثل بزبانيته وأبواقه وعملائه، وهم في الحالة العربية-الإسرائيلية معروفون كلهم، ولا فرق هنا بين نتنياهو وعباس ومشايخ الخليج مثلا، لكل منهم دوره المتكافل، ولكن الأهم في مسرح العبث هذا أولئك الذين يعتبرون أنفسهم واقفين في الوجه المقابل الوجه المضاد للعقل الأمريكي من أساتذة جامعات وكتاب وناشطين من كل نوع وصحافيين وغيرهم من بائعي الطعمية الوطنية وساندويتشات أحلام التحرر والانعتاق، لأن لخطابهم كلهم أثرا معاكسا لما يروجون، وهم يكرسون دون أن يشاؤوا كل آفات الذين يظنون محاربتهم، ويبررون دون أن يشاؤوا كل أفعال الذين يظنون فضحهم.


تحت سلطة هذا الزمن الضائع، يعرف أذيال أوسلو جيدا أن ما توصلوا إليه هو كل ما توصلوا إليه وكل ما يمكنهم التوصل إليه لهذا أن تسمى المفاوضات مباشرة أو غير مباشرة يبقى الأمر في إطار التسميات والفذلكات اللفظية فقط لا غير، فالمفاوضات كانت من قبل مباشرة، ولم تؤد إلا إلى ما أدت إليه، ولن تؤدي إلى أكثر مما أدت إليه، ويعرف ضباع الإسرائيليين أن المفاوضات كانت وستبقى من داخل المنطق السائد للعقل الأمريكي وآليته: لوبي ويهودية وماسونية وصهيونية واختراق وتغلغل وبيت أبيض وبيت أسود وبنتاغون وسي آي إيه وهم من وراء 11 سبتمبر 2001 وهم من أمام وهم وهم وهم وكل هذا التهويل يخدم مصالح البيت الأبيض تارة بإلقاء التبعية على الغير من أجل تبرير ما لا يمكن تبريره وتارة من أجل لجم الإبن العاق عندما يتجاوز الخطوط المرسومة له، وهذا ما حصل مع نتنياهو لما صاح عليه أوباما صياحا أعلى بقليل من المعتاد وذكره بما عليه من شروط إلزامية -أن يلتزم بها أم لا هذا شيء آخر ودائما من خلال آلية العقل الأمريكي الحاكم-.

للخروج من مأزق الزمن الضائع ليس للعقل "الخيّر" حاجة إلى بروست فلسطيني، هذا العقل استطاع أن يتحرك يهوديا في بروكسل، وأن يسجل بعض النقاط الإيجابية والهامة ضد السلطة الزمنية في إسرائيل وبالتالي ضد السلطة العالمية التي هي السلطة الأمريكية، ولا يسعني سوى أن أحيي مثل هذه المبادرة التي ليس أبدا كل أعضائها صهاينة كما يدعي البعض، ومن بينهم المؤيد الذي لا يلين للشعب الفلسطيني وقضيته ودولته، وأنا هنا لا أتوقع من هذا العقل ما أتوقعه من عقلنا، ولا أطالب هذا العقل بما أطالب عقلنا، ولكن الحد الأدنى منه يكفيني، والحد الأدنى في الاتجاه الإسرائيلي هو حد أقصى ارتعدت له فرائص حكام إسرائيل، وأنا يا من قدم للعقل الفلسطيني العربي خطة يجب القتال من أجل تنفيذها لأنها خطة استرداد كل الحقوق الفلسطينية كاملة لم يتحرك هذا العقل حولها ومن أجلها، لأنه في واقع الأمر ليس موجودا أو هو مصادر مصادرة المال العربي والكيان العربي والجوهر العربي، فهل يتحدى هذا العقل السلطة الزمنية العربية، وبالتالي السلطة الزمنية الأمريكية، وهل يقوى على القيام بالمهمة التي ألقيها على عاتقه من أجل الانعتاق، مهمة السلم المقاوم، والذهاب بنا من سياسة الإرجاء إلى سياسة الإنجاز؟

www.parisjerusalem.net

Read more…

ترجمة الفصل الأخير من كتاب خطتي للسلام حكاية فلسطيني عاد إلى يافا

د. أفنان القاسم / باريس

دائما ما يكون الجو جميلا في يافا، حتى في الشتاء، ويا لنا من محظوظين نحن اليافاويين! الشمس لنا طوال السنة تقريبا، والبحر، ولا تفرغ حدائقنا من عطر زهر البرتقال. نعمة حقيقية. وقعت ابنتي سامية في غرام المدينة منذ أول يوم لعودتنا. زوجتي كذلك. لديهما نوستالجيا لباريس طبعا، لشوارعها، لمعالمها الأثرية، لدكاكينها، ولكن يافا تعطيهم الأمن، والاطمئنان، وراحة النفس، خاصة منذ غدت سارة وأمها نورة اللتان تسكنان في الطابق الأول صديقتيهما. الصداقة في النهاية هي اختيار القلب، وقد اهتزت قلوب النساء الأربعة بسرعة. تذهب بنتا الخامسة عشرة إلى الكلية الإنجليزية معا كل صباح، فهما في نفس الصف. وتعودان إلى البيت معا، وأحيانا تبقيان معا إلى ساعة متأخرة من المساء لتنجزا واجباتهما. خاصة واجبات العبرية، لغة لا تعرفها ابنتي إطلاقا. لحسن الحظ سارة هنا. العبرية ليست كالعربية، يا بابا، تقول لي سامية، ومع هذا كانت تقدر على فك لغة الضاد بصعوبة. الذنب ذنبي. مهنة الصحافة تأخذ مني كل وقتي، ولا يمكنني تكريس ساعة أو ساعتين في اليوم من أجل تعليم لغتنا لابنتي. تعاتبني زوجتي: أنت يا من تتقن العربية جيدا لا تُعلّم هذه اللغة لابنتك الوحيدة لتستطيع فيما بعد قراءة مقالاتك، الأمر جسيم الخطورة بالنسبة لي! فأفعل كل ما بإمكاني فعله كي أطبق برنامج تعليم تطبيقا تعسفيا، لكن ابنتي تتراخى بسرعة، فهي لا تأخذ درس "بابا" أبدا بمحمل الجد. والغريب أني لم أفكر أبدا في إعطاء أستاذ لها. مع كل نشاطاتها، موسيقى، رقص، رياضة، سباحة... هي أيضا لم يكن عندها وقت. هنا، في يافا، ومع أخذ بيئتها الجديدة بعين الاعتبار، عليها أولا أن تتعلم العبرية. العربية، ستكون فيما بعد. ربما خلال إقامتها عند أخي في عمان.


حول هذا الموضوع، وعلى العكس مني، لا يريد أخي أن يسمع شيئا عن يافا. في كل مرة يقوم بزيارتنا، يشعر بالاختناق، فيختصر إقامته. ومع هذا، يحب أبناؤه البحر، وتشعر زوجته كما لو كانت في الجزائر. زوجته من الجزائر العاصمة، وتجد يافا أجمل من المدينة التي ولدت فيها. بالنسبة لأخي، لن يقيم فيها أبدا. عمان دميمة بالمقارنة مع المدينة الساحلية الإسرائيلية، ولكنه يفضلها على أية مدينة أخرى في العالم هو الذي ولد في نابلس وكبر في الجزائر. يفضل عمان على نابلس حيث يشعر فيها أيضا باختناق أكثر. بالنسبة له، عمان هي عاصمة العالم. هناك يحب العمل والعيش. هكذا هو الأمر. أما عني، فليس لأنني ولدت في يافا عدت إليها، ولكن لأن قلبي، قلوبنا أنا وزوجتي وابنتي قد اختارت، ويتعلق اختيار القلب أيضا بالمدن كالأصدقاء. ولأن لي بعض الإمكانيات التي سمحت لي بشراء هذه الشقة الصغيرة في الطابق الأرضي من هذه العمارة الصغيرة ذات الطابقين الأرضي والعلوي، مع حديقة تزهر فيها أشجار البرتقال طوال السنة. ولكن على الخصوص لأن عملي الصحافي يسمح بهذا. أنا مراسل لعدة صحف عربية في بيروت ودمشق والقاهرة، كما كان الحال لما كنا في باريس. ومثل ابنتي وزوجتي لا أعرف من العبرية سوى كلمة "شالوم" إلا أن معظم الإسرائيليين الذين أعمل معم يتكلمون العربية، إذن لا مشكل هناك. كأني كنت في دمشق أو بغداد. أضف إلى ذلك، القدس، عاصمة الصحافة بمجموعها، ليست بعيدة، أصدقائي الصحافيون هم هنا دوما عندما أحتاج إليهم.

الحق أني لا أريد الحديث عن مهنتي، ومع هذا هذه المهنة تملأ حياتي. أريد أن أحكي أشياء بسيطة عن حياتنا الجديدة في يافا. أريد أن أتكلم عن نورة وابنتها سارة - ابنة وحيدة كابنتي سامية - أريد أن أحكي عما تفعلانه لنا عندما تدعواننا عندهما، عما تقولانه لنا. أريد الكلام عن مجنون السوق هذا، عن بائع السمك، عن الخباز، عن بائعة الخضروات والفواكه. أود الحديث عن الأماكن التي أرتادها، مقهى القرنة، مطعم الشط، البركة التي أرافق سامية إليها دون أن أسبح أبدا بسبب خوفي من الماء. الأمر جسيم الخطورة، يا بابا: واحد وُلد في يافا ولا يعرف السباحة! ترميني ابنتي ساخرة. أريد الحديث عن هذا القارب الراسي دوما قرب مسكننا والمسمى عنترة على اسم الفارس الجاهلي الأسود عاشق ابنة عمه عبلة. منذ كنت صغيرا، وأنا أحلم بالصعود على قاربٍ مشابه لأمخر البحار. أود الكلام عن موشيه وموسى، الأول يهودي والثاني عربي، ولكن للاثنين الاسم نفسه، فقط النسخ الصوتي يختلف. أريد الحديث عن كل شيء ولا شيء، عن العابرين، عن متنزهي السبت، عن اللصوص كما هم موجودون في كل البلدان، عن الطيبين، عن اللئيمين، عن كبار القامة والأفعال، عن صغار القامة والأفعال، وأيضا عن كبار القامة وصغار الأفعال، وصغار القامة وكبار الأفعال، عن المتواضعين، عن البسطاء، عن المتهورين، عن الوقحين، عن الشرفاء، عن عديمي الشرف، وعن آخرين لا خصوصية لهم. أود الكلام عن أحلامي الأخرى، أحلامي التي لي، الأكثر حميمية، التي اعتدت الاحتفاظ بها لنفسي، والتي لا أقولها لأحد حتى لابنتي، ولا حتى لزوجتي. أود الحديث عن ابتسامة مدفونة في ذكرياتي، ابتسامة رأيتها ذات صباح على شفتي امرأة عند موقف الباص، ومنذ ذلك الوقت لم أرها من جديد، ومع ذلك، كنت أنتظرها، تلك السيدة ذات الابتسامة التي لا تُنسى، لم أزل أنتظرها. أريد الحديث عن أمي، العجوز أمي، التي تتلفن لي غالبا وفي كل مرة تبكي، لأنها تتلفن لي في يافا، المدينة التي ولدت فيها، والتي ولدتني فيها، ولأنها لا تجرؤ على وضع القدم فيها لخوفها الموت من الفرح. أريد الحديث عن كل هذا، ولكني لا أعرف من أين أبدأ.

قالت لي سارة أول مرة دعينا فيها عند نورة أنا وزوجتي وابنتي، وهي تشير إلى صورة بالأسود والأبيض تمزقت حوافها لكثرة ما لُمست وحُملت ودُللت: هذا ساري. ضحكت أمها وقالت إنها منذ كانت صغيرة لم تكن ابنتها تقول أبدا بابا وإنما ساري، كانت تدعو أباها ساري. هذه إذن صورة أبيك، قلت لها. قل ساري، ألحت البنت، هو الآن في الجنة. مات أبوك في الحرب؟ هزت سارة رأسها. أنا آسف، همهمت. بدلت نورة الموضوع. سألتنا إذا كنا نحب الأكل الكاشير. كنا نأكل من كل الأطباق في باريس، قلت لها، كنا نحب كل شيء، الأكل الصيني، الهندي، الإيطالي، اليوناني، اللبناني، البرتغالي، البولوني... وأطباق يهودية، يهودية، ألحت نورة، هل سبق لكم وأكلتم؟ لم أكن أريد مضايقة نورة، كنت أريد الكذب عليها، كنت على وشك القول نعم، سبق لنا وأكلنا، لكن زوجتي سبقتني إلى الكلام، وقالت لا، أبدا. إذن ستأكلون أطباقا يهودية لأول مرة، وستقولون لي إذا أعجبكم هذا. سمعت سارة تقول لسامية، أبوك يشبه ساري، ألا تجدين ذلك؟ أبدا على الإطلاق، أجابت ابنتي. يشبه ساري بابا سامية، يا ماما، أليس كذلك؟ سألت سارة أمها. دعيني أرى... قليلا، إذا أردت، أجابت نورة. وابنتي: أبدا على الإطلاق، أبدا على الإطلاق. توجهت زوجتي بالحديث إليّ: أجد الحق مع سارة، أنت تشبه ساري كثيرا. أرأيتِ؟ صاحت سارة منتصرة. وسامية: أبدا على الإطلاق، أبدا على الإطلاق. اتركي ساري في حاله هناك حيث هو، هلا أردتِ، قالت نورة لابنتها. تركته، تركته، ولكن اعترفي أن الحق معي، بابا سامية يشبه ساري، أعادت سارة. نعم، قلت لك، قليلا، أعادت نورة مع بعض النرفزة. عند ذلك، نظرت سارة إليّ بمحبة. نظرت إليها بحنو، وابتسمت لها. ابتسمت لي. بدا على سامية الضيق. ابتسمت لسامية أيضا. انتظرت أن تبتسم لي، أن لا تخيب أمل صديقتها، أن تضع نفسها مكانها، وتجد في ساري بعض الشبه بي. فَهِمَتْ في النهاية، وابتسمت لي ابتسامة كبيرة.

في مقهى الفولغا القريب من بيتنا، صار النادل يوري يحفظ عاداتي عن ظهر قلب. إذا مررت في الصباح حوالي العاشرة لأكتب مقالي على رصيف المقهى، أحضر لي قهوة دوبل دون أن أطلبها منه. كان يكفيه أن يراني قادما من بعيد. ابتداء من الثانية بعد الظهر، كان يحضر لي قهوة دون كافيين، كان يعرف أنني لا أشرب قهوة بكافيين بعد تلك الساعة خوفا من ألا أنام في الليل. وعندما كان يحلو له ذلك، كان يقدم لي قطعة شوكولاتة سوداء. كان يبتسم لي، ويتكلم لي عن نفسه بضمير الغائب عندما لا يكون مشغولا كثيرا. يوري يفضل الفودكا على القهوة، إنها قهوته، قال لي في إحدى المرات. ليعمل جيدا، يوري يشرب كثيرا من الفودكا، مثلك، يا سيدي الصحافي مع القهوة. لا يمكنك كتابة مقالاتك دون هذا. يوري أيضا لا يمكنه الاعتناء بالزبائن دون هذا. سألته إذا كان لا يسكر. يوري لا يسكر أبدا، قال لي. ابتسم لي. في عروق يوري هناك نهر من الفودكا كبير بقدر نهر الفولغا، لكن يوري لا يسكر أبدا. هل تريد أن أحضر لك كأسا، ستكون دورتي؟ لا، شكرا يا يوري، أنت لطيف جدا، قلت له. أنا لا أحتمل الكحول، الكحول يقطع لي الإلهام، وفوق هذا يسبب لي الدوار. الفودكا إلهام يوري، عدة كؤوس، كثير من الكؤوس يوميا، قال يوري. وإلا ما أمكن يوري الاعتناء بالزبائن. سيعود يوري، قال فجأة. تركني إلى زبون ناداه. عرفت فيما بعد أن يوري يتكلم عن نفسه بضمير الغائب لأنه لا يعرف التكلم غير ذلك بالإنجليزية.

في أحد الأيام، بينما كنت أكتب على طاولة في زاوية من زوايا رصيف المقهى، أتى يوري مع مخلوقة شقراء جميلة جدا، وقال لي هذه دوشكا، خطيبة يوري. يود يوري أن يقدم لك صديقته لأنه كلمها عنك، قال لي. اعتذرت دوشكا للإزعاج بإنجليزية ممتازة، وهي تأخذ مكانا قربي. كلمتني عن القاهرة، وقالت لي إنها تعرف جيدا العاصمة المصرية، ثم سألتني إن كان لي أصدقاء في دمشق. قلت لها كصحافي لي أصدقاء في كل العواصم العربية، فقالت لي إنها ستزور مدينة الحرير، وإنها تريدني أن أوصي عليها أصدقائي. أحضر يوري كأس فودكا لصديقته وقهوة دوبل لي. قلت له إن هذه القهوة الدوبل الثانية كثيرة عليّ، لكنه أجابني أنها دورة دوشكا. وبالطبع، لبيت مطلب الشقراء الجميلة. جرعت كأسها دفعة واحدة، وكشفت لي أنها ستسافر وحدها، فيوري لا يستطيع ترك معلم الفولغا، وبشيء من الضغينة في صوتها، اعترفت لي أن النادل هنا يفضل عمله على خطيبته منذ أن انتهت الحرب نهائيا. أحضر يوري لدوشكا كأس فودكا أخرى، ولي كأس عصير برتقال. إنها دورة يوري، قال هذا الأخير. وذهب، وهو يبتسم كالطفل، إلى زبون وصل. وأنا أرى دوشكا تجرع كأس الفودكا الثانية دفعة واحدة، قلت لها في دمشق لن تكون هناك فودكا، لن يكون هناك كحول، وإلا نظر إليها الناس نظرة أخرى، فابتسمت لي دوشكا ابتسامة كبيرة، وقالت إنها لن تشرب سوى الماء في دمشق، وإنها لن تخيب أملي عند أصدقائي.

يوم الجمعة، في السوق، سعد المجنون هو من يحمل لنا، لي ولزوجتي، السلة. يأكل حبة فاكهة من السلة أو حبة خضار، ولا ينقطع عن الابتسام لنا ببلاهة. يقفز فجأة ليهدد حمالا آخر أو يركض وراء صبي يمد له لسانه فقط لأجل استفزازه. ولكن تعال، يا سعد، إلى أين أنت ذاهب؟ تصيح به زوجتي. هل رأيتِ ما فعله لي؟ يجيب بكلماته المقطعة. أنا يهودي، مثلكم، مثلهم، مثل كل الإسرائيليين. لي حق الاحترام. طيب، احمل جيدا السلة ولا توقعها، تنصحه زوجتي. ومن وراء بسطة السمك: هيه، سعد، لم تذهب إلى الكنيس اليوم من أجل الصلاة، يناكده مئير، السماك. لأجل إسعادك سأذهب إلى الجامع، مبسوط، يا بائع الحيتان؟ يجيب سعد. إلى الجامع أم إلى الكنيسة؟ يناكده مرة أخرى مئير. إلى الجامع، وسأطلب من إله الإسلام أن يجعل... يصيح سعد. حوتا يبلعني؟ يسأل مئير، السماك. قرشا يبلعك! يجيب سعد المجنون. أنا أخيف القروش، ألا ترى كرشي؟ يضحك مئير السماك. إذن سمكا أحمر، يرمي سعد بسذاجة. السمك الأحمر لا يؤذي أحدا، السمك الأحمر يعمل وجبة شهية للسيد الصحافي، يختم مئير. يغمزني، وهو يمد لي كيلو سلطان ابراهيم، هذا السمك بطعمه الملوكي لبحر يافا. إذن سمكا أسود، يعود سعد إلى القول. يقهقه مئير السماك. سمك أسود، لا يوجد سمك أسود، يقول. إذن سمكا أصفر، يرمي سعد دون أن يعني ما يقول. ومن جديد، يقهقه مئير السماك. لا يُغلب، سعد المجنون هذا، يقول لي، وهو يعيد لي الصرف. ثم لامرأتي: احتراماتي، سيدتي الصحافية. طعام ممتاز ونهار ممتاز! يتركنا سعد، ويعود ليعمل الصف عند بائعة الفواكه والخضار، يكمش عشرة عروق فاصولياء خضراء، ويأخذ في مضغها. كف عن مضغ الفواكه والخضار، تقول له زوجتي. تضحك البائعة الطيبة التي من الجليل حتى تدمع عيناها، ثم تهمس بالعربية في أذن زوجتي: إنه من عندنا، ولكنه لا يريد أبدا العودة إلى بيته. يفضل التسكع هنا. إنه من عند... تتردد زوجتي. والأخرى: من عندنا، من عندنا، من الجليل. أعرف للمرة الأولى أن سعد من الجليل. إنه من الجليل، من عندنا. أبوه من نبلاء البلد، ولكن هو، يفضل التسكع هنا. إنه مجنون.

ما أن يرانا صموئيل الفران نرتقي درجات محله حتى ينادي راشيل زوجته. راشيل، الخبز الفرنسي للسيد الصحافي وزوجته، يقول وهو يرفع الستار الفاصل بين قسم الفرن وباقي الدكان. ثم لنا، صباح الخير سيدي الصحافي، صباح الخير سيدتي الصحافية، خبزكم في الطريق. تصل راشيل بجسمها الضخم ووجهها المدور، وهي تبتسم كلها، وفي يدها عصاتان من الخبز الفرنسي. ها هي العصاتان كما تريدان وترغبان، تقول لنا. تأخذهما زوجتي، وهي تشكرها. أذهب لأدفع، لكن مثل كل مرة صموئيل لا يريد أن يأخذ شيكلاتي. ألح ألف مرة ليأخذ ثمن خبزي. خلال ذلك، تلف راشيل قطعة حلوى. هذه للصغيرة، تقول وهي تبتسم أكثر فأكثر. أريد دفع قطعة الحلوى، لكن راشيل تأخذ بالصياح: مقدمة للصغيرة من طرف الدكان. نشكرها أنا وزوجتي. ونحن على وشك المغادرة، يرمي صموئيل من ورائنا: وغدا، الشيء ذاته؟ نعم، الشيء ذاته، تجيب زوجتي. إلى الغد إذن، يقول صموئيل وراشيل بصوت واحد. إلى الغد.

لا تريد امرأتي أن يحمل سعد المجنون العصاتين، لكنه يلح على حملهما. يبدأ بالتسييف بهما كما لو كان يحمل سيفا. يصرخ، خبز فرنسي، خبز فرنسي! ينظر إليه الناس ويبتسمون. توقف قليلا، يا سعد المجنون، تقول له زوجتي. وهو، يصرخ دوما، خبز فرنسي، خبز فرنسي! يستمر حتى شارعنا، خبز فرنسي، خبز فرنسي! إلى أن يجعلنا انفجار ضخم نقفز من الخوف فجأة. صاروخ تم إطلاقه على مقطورة مدرعة لنقل النقود كانت تقف أمام أحد الفروع البنكية. مات ناقلو النقود في الحال، ودخل رجال مقنعون في المقطورة التي انشقت اثنتين، وحملوا أكياس مليئة بالأوراق النقدية، ثم هربوا في سيارتين بأقصى سرعة. لم يعد سعد مجنون كل يوم، قال لنا إنهم ضباط قدامى في الجيش الإسرائيلي. بعد انتهاء الحرب، وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، فصاروا قطاع طرق. ولم ينطق بكلمة واحدة بعد ذلك حتى شقتنا. أعطيته بعض الشيكلات، وصرفته.

قبل مواصلة استكشاف حيي، أريد أن أحكي قصة موشيه وموسى. نشرتها في جريدة بيروتية، ولكن وقائعها لا تغادر أفكاري.

في الواقع، موسى فلسطيني من الأراضي المحتلة، هذه هي التسمية التي كانت قبل قيام الدولة الفلسطينية والإتحاد المشرقي. قروي من الخط الأخضر. أما موشيه، فهو مستوطن. في الخط الأخضر هناك عدد من المستوطنات التي بناها سكان القرى المجاورة من أجل عيشهم. وبالطبع، غصبا عنهم. وأحيانا على حساب القرى العربية التي هدم نصفها أو تم محوها تماما. لأن الأطفال عليهم أن يأكلوا، ولا أحد في العالم يقلق من أجل القرويين الصغار هؤلاء. إلا أن، بعد قيام الدولة، ذهب موسى يطرق باب موشيه ليقول له إن البيت الذي يسكن فيه هو من بناه. وعلى العكس، بيته، بيت موسى، قد هدمته الجرافات.

وضع موشيه كتابه المقدس، ورجا موسى الدخول. طلب من زوجته روبيكا أن تعد الشاي، شايا بالنعنع، بما أن موشيه يهودي أصله مغربي. تكلم مع زائره بالعربية الفصحى، عندما اعترف موسى أن لمن الصعوبة لديه فهم الدارجة المغربية تمام الفهم. عندما علم موشيه أن اسم من دعاه إلى منزله موسى، رفع يديه إلى السماء، وشكر الله على تلك الصدفة. لم تفهم روبيكا شيئا، وطفلها على ركبتيها، فشرح لها زوجها أن لهما واجبات ومسئوليات الواحد تجاه الآخر بسبب اسمهما المشترك. وفي وقت السلم، يوصي الله بالجار خيرا خاصة أنه لم يعد عدو الأمس. بنيتَ بيتي، إذن سأبني بيتك، قال موشيه الطيب. وابتداء من الغد، شمر عن ساعديه ليعين موسى.

في مطعم الشاطئ نجمة دافيد، لا يجري تقديم سوى أطباق شرقية. كنا ندعو هناك نورة وابنتها سارة عندما تكون زوجتي تعبة وتريد مشاركة صديقتيها وجارتيها الطعام. دافيد، صاحب المطعم، يهودي أصله مصري، أناديه داوود، وأحكي معه بالمصرية، وهو على أي حال يرفض أن أكلمه بالإنجليزية. حتى عندما يقبل - لأن نورة وسارة اللتين أصلهما أسباني لا تفهمان العربية - وأكلمه بالإنجليزية يجيبني بالعربية. يقدم لنا دجاجا محمرا بالبصل مع مائة طبق مقبلات، أنا لا أغالي. هذه الأطباق اللذيذة التي نتناولها في الوقت الذي نتناول فيه الطبق الرئيسي، في جو فرعوني وتحت سطوة الأغاني المصرية. فجأة يجتاح صوت أم كلثوم الماسي القاعة، ويقترب داوود مني، وهو في غاية السعادة، ويقول لي بابتسامة كبيرة جدا إن كل هذا لأجلي. أشكره، ولكن أمام تغضن جبين البنتين، أطلب منه أن يوطئ الصوت، فلا يوطئه. تقول زوجتي لسامية وسارة لو كان هذا روك أو راب لرفعتا الصوت إلى أعلى ما يكون ولأمضيتا الليل مرحتين أقوى ما يكون المرح. تضحك البنتان. تجد نورة صوت أم كلثوم رائعا حتى وإن لم تفهم الكلمات. يقدم لنا داوود على حسابه طبقا كبيرا من الكباب، وهو يلح قائلا: على الطريقة المصرية، كما هو الحال في الماضي الرغيد. ومع ذلك لم يكن داوود كبير السن إلى هذه الدرجة. وفي كل مرة: تريدون شيئا آخر؟ تريدون شيئا آخر؟ بعد العشاء، نتنزه قليلا على طول الشاطئ، ألقي نظرة على القارب عنترة الراسي دوما هناك. أذهب قليلا مع أحلامي: أن آخذه ذات يوم، وأمخر البحار.

في أحد الأيام، فاجأتني أمي. سأكون غدا في مطار تل أبيب، قالت لي على الهاتف. كنا كلنا هناك بانتظار وصولها، أنا، وزوجتي، وابنتي. كنا خائفين عليها بعد غياب نصف قرن، كنا خائفين عليها أن تموت من الفرح مثلما لا تتوقف عن ترداد ذلك كلما تلفنت لنا. عددنا الساعات والدقائق. فكرنا في كل ما يمكنه عبور روحنا، تخيلنا شخصا لم ير بلده منذ عقود. متى تضع القدم على الأرض التي ولدت فيها، عندما تنظر من حولها وترى أن كل شيء قد تغير، عندما تذهب إلى البحث عن المكان الذي كانت تسكن فيه، عندما تنظر إلى البحر وتجد أن السفن تبحر دوما، عدا عنترة. وعندما، وعندما، وعندما... حطت طائرتها أخيرا. أخذ قلبي يدق بعنف. تركتنا زوجتي، أنا وسامية، وذهبت إلى باب وصول المسافرين، بهيئة زائغة. لم نكن سعداء لرؤية أمي، كان الحزن يعصر قلوبنا. لماذا تفعل فينا هذا؟ لماذا عادت؟ لماذا لم تعد تخاف الموت من الفرح؟ كنا حزناء. رأيتها من بعيد، رفعت يدا مترددة، وحاولت أن ابتسم لها، ولكني لم أستطع. اختبأت ابنتي من ورائي. اختفت زوجتي. لدهشتي كانت أمي تقطب حاجبيها، لم تكن حزينة، ولم تكن سعيدة، كانت لها هيئة شخص يخرج من قبر، الموت عنه بعيد، ولكن دون إظهار أقل إشارة فرح لعودته إلى الحياة. كان لأمي وجه كامد، وجه ميت.

ماما!

لم تقبلني. لم تسألني لماذا تختبئ سامية من ورائي. لم تسألني أين زوجتي. ومع ذلك قلت لها إن زوجتي في مكان ما هناك، إنها ذهبت لاستقبالها. توجهنا إلى سيارتي التي لا آخذها إلا لماما، ووجدنا زوجتي جالسة على المقعد الأمامي، وهي تبكي. لأني هنا تبكين؟ سألتها أمي بجفاف. لا، أؤكد لك، همهمت زوجتي. في الطريق، على رؤية يافا من بعيد، انفجرنا كلنا نحن الأربعة باكين. سقطت سامية بين ذراعي جدتها، وبكت، بكت كطفلة ذات خمس سنين، وبكت. صرخت "مامي"، وبكت. أوقفتُ السيارة، وعيناي مغرورقتان بالدموع، وبكيت كطفل، أنا أيضا. انتحبنا نحن الأربعة، أمي التي سيكون عمرها ثمانين سنة ونحن الباقين، كالأطفال. استمر ذلك وقتا طويلا. ثم توقفنا كلنا عن البكاء دفعة واحدة. مسحت سامية دموعها، وأطلقت بعض الضحكات، أحلى الضحكات. ثم صمتت. عدت إلى قيادة السيارة من أجل الذهاب مباشرة إلى بيتنا. كانت نورة وسارة هناك بانتظار أمي. أشارت لهما زوجتي من بعيد، ففهمتا، وبقيتا جامدتين كالتماثيل. حيتهما أمي، وهي تمر أمامهما، ولكنهما، هما، لم تردا عليها. سارعت سامية وسارة إلى الانعزال لتحكيا لبعضهما أشياء عن وصول أمي، عنا، ولماذا كل ذلك الجو المفجع. أما نورة، فقد بقيت جامدة كالتماثيل. ثم رفعت رأسها، ونظرت إلى قمم الشجر.

خلال إقامتها في يافا، لم تبد أمي أي فرح، حتى إنها لم تطلب الذهاب إلى اكتشاف بيتها القديم. كانت تنظر إلينا، وتنظر إلى الناس. في البداية، رافقناها إلى الشاطئ، ثم صارت تعرف كيف تذهب وحدها. السبت، كنا نتنزه مع نورة وسارة في شارع اسكندر عوض القديم، وطبعا لم يعد هناك أي أثر لهذا الشارع الماضي. ومع ذلك، كانت لأمي هيئة أقل حزنا عندما تسير على رصيفه. كانت تكلمها نورة بالإنجليزية، وتترجم لها من العبرية، حتى عندما يصيح عابر بآخر. هذا بحار سئم الإبحار، أو هذه عاهرة تشكو قلة الزبائن في زمن السلم، شيء مفارق، ولكن لا تفسير له. إسرائيل بلد المفارقات، أسرّت نورة لأمي. تَقاتَلَ شخص مع شخص آخر، وراحا يشتمان بعضهما. عربي ويهودي؟ سألت أمي نورة. لا، يهودي ويهودي، أجابت سارة. نحن بلد المفارقات ولكننا أناس طبيعيون... إلى حد ما، تضيف نورة. ولكن أتسمعون ما يقولون؟ أنا لا أفهم العبرية، رمت أمي بابتسامة تعبة وحزينة. أعرف، أعرف، سارعت نورة إلى القول. على بعد وجيز، كان هناك شخصان آخران يتقاتلان ويتشاتمان هما أيضا. أريد فقط أن أقول لك، عادت نورة إلى القول، أترين هذين الشخصين هناك اللذين يتقاتلان؟ الواحد عربي والثاني يهودي، وهذا الأخير غطى الأول بالشتائم، بكل الشتائم العنصرية التي في العالم. أنتم إذن، رمت أمي من جديد، لستم فقط طبيعيين بل أكثر من طبيعيين. نادتني أمي، ولكني لم أجبها. وقعت على تلك الابتسامة التي كنت أبحث عنها والتي كانت تسكنني. نفس السيدة الماضية، نفس الابتسامة التي ألقت بها قبل الصعود في الباص والاختفاء.

في وسط الليل، بدأت سامية بالصراخ من ألم في بطنها. جربنا كل شيء لتخفيف الألم عنها، العشب المغلي، القربة، الحبوب التي تحتفظ بها زوجتي احتفاظها بالأحجار الكريمة "في حالة ما". لكن شيئا لم ينفع. صعدت زوجتي تطرق الباب على نورة. سامية يوجعها بطنها وجعا رهيبا، قالت لها. نهضت سارة أيضا، وأرادت مصاحبة أمها. لا، عودي إلى السرير، غدا عندك كلية، وعليك النوم، قالت لها أمها. أحضرت بعض أكياس "ديبريدا" لإذابتها في كأس ماء. لكن شيئا لم ينفع. اقترحت نورة أخذها إلى المستشفى العسكري غير البعيد، وستقوم بدور المترجمة. لا تزعجي نفسك، قالت لها زوجتي، سيكون حتما هناك أحد يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية. لكن نورة أصرت على المجيء.

في المستشفى العسكري، كانت الحياة في أوجها ليلا نهارا. أخذ فريق من الأطباء والممرضات على عاتقه معالجة ابنتي فورا. تركت زوجتي ونورة ترافقان سامية، وذهبت أجلس في قاعة الانتظار. كانت لي رغبة في النوم، فأغمضت عينيّ، ولكني لم أتمكن من ذلك. وقفت، وعلى غير عادتي، وضعت قطعة نقدية في موزع الشراب الساخن، وأخذت قهوة سوداء. قطعت الممر الطويل، وأنا أرشف قهوتي، عندما بدأ من ناحيتيّ معاقو حرب من كل الأشكال يخرجون من الحجرات. الذين قطعت ذراعهم أو ساقهم، الذين على عينهم ضماد أو حول رأسهم رباط، الذين أسنانهم مقتلعة، أنفهم مجدوع، شفاههم مقطّعة، أظافرهم مقتلعة. هناك الشقر، والسمر، والسود. الذين يتكلمون العبرية، الذين يتكلمون العربية، الذين يتكلمون الفرنسية، والذين يتكلمون الروسية، والذين يتكلمون الإنجليزية أو الأسبانية أو الهنغارية أو البولونية. كانوا يتكلمون كلهم في وقت واحد، ويبدون سعيدين. كانوا يضحكون، ويضربون في أيدي بعضهم البعض، وعلى الكتف. كانوا يتنادون. كانوا يشيرون إلى بعضهم البعض، ويتجهون كلهم إلى قاعة كبيرة، ويختفون. نظرت إلى ساعتي، كانت الثالثة صباحا، ولم أكن أحلم. عدت إلى قاعة الانتظار، وقليلا فيما بعد، رأيت ابنتي تتقدم بين أمها ونورة، وعلى شفتيها ابتسامة رائعة. سارعت إليها، وأخذتها بين ذراعيّ. لا شيء لديك؟ واصلت الابتسام. لا، لا شيء لديها، قالت نورة. غسل لها الطبيب معدتها، أوضحت زوجتي، لم يعد لديها شيء.

عند عودتنا إلى البيت، وجدنا أمي وسارة جالستين بانتظارنا على عتبة باب البناية الخارجي. كانت أمي تحتضن الصغيرة بين ذراعيها، وهي تغطيها جيدا، والصغيرة تنام على صدرها. قالت نورة وزوجتي لهما إن الطبيب أجرى غسيلا لمعدة سامية، وإنه لم يعد لديها شيء. قلت للجميع لم تعد لديّ رغبة في النوم، وأنا ذاهب لأعمل دورة على الشاطئ. نَظَرَتْ أمي إليّ، قلقة. طمأنتها، وأنا أبتسم لها، وهربت من نظرتها.

كان الشاطئ خاليا من كل قدم، والبحر ممتدا إلى ما لا نهاية، أسود وفضيا، وكانت الأمواج تكلم الأمواج. تقدمت من عنترة، الموجود دوما هناك، الراسي دوما، المهجور دوما، عندما خرج من قعره فجأة رجل أسود عاري الصدر جميل كإله. حدثني بلغة أجهلها، ولكني فهمت من حركاته: إذا ما كنت أرغب في القيام بنزهة في القارب معه. قلت لنفسي للقارب إذن صاحب، وهو يمخر البحر كل ليلة في مثل هذه الساعة. أشرت إليه بنعم، فساعدني العملاق الأسود على الصعود. وبعد لحظات، اخترقت حلم طفولتي، أنا الرجل الذي كنت، بعد سنوات طويلة من الانتظار والعذاب.

باريس 2004

د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الإتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 117-133.

ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك

Read more…

ترجمة الفصول الخاصة باتفاقية أوسلو (3): الأسر والتبعية الكاملة

إذن سيطبق "الفلسطينيون المعينون" من طرف المحتل من أجل القيام بمهمة تركيع الشعب الفلسطيني بالحرف الواحد اتفاقا يؤجل دوما إلى ما بعد ما يجب على إسرائيل فعله، ولكن يقضي بتنفيذ الأوامر التي أُمليت على المفاوض العرفاتي في الحال. وما يدعى "سلطة قضائية" هو جدارة التصرف في هذه الطريق، طريق الأسر والتبعية الكاملة. وبعد أن تُترك جانبا المفاوضات "حول المسائل العالقة، وعلى الخصوص القدس، اللاجئين، المستعمرات، التدابير في مادة الأمن، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل أخرى ذات أهمية مشتركة" مادة V فقرة 3 - بعد كل هذه المسائل التي تركت عالقة، والتي هي القضية الفلسطينية عينها، هل تبقى مسائل أخرى حقا؟ - عندما تترك جانبا المفاوضات حول هذه المسائل الحيوية لثلاث سنوات "على الأكثر" بعد البدء بمرحلة الانتقال التي تمتد إلى خمس سنوات، هذا يعني أن لا شيء جرى حله في أوسلو، أن عرفات وأتباعه يدفعون الشعب الفلسطيني إلى الوقوع في فخ، وأن الإسرائيليين الذين سيكون كل الوقت لهم لن يحلوا هذه المسائل أبدا في وقت محدد وكما يوجب ذلك. وعلى العكس، من الجانب الفلسطيني، يجب إثبات، وذلك منذ البداية، أن هؤلاء الفلسطينيين المعينين من طرف المحتل قادرون على أن ينوبوا عن الحكومة العسكرية الإسرائيلية حتى قبل تشكيل "المجلس"، والذين سيوكل إليهم ما يدعى بالمهمة الاقتصادية والبوليسية. وكل اتفاق أوسلو 1 يدور حول هاتين الناحيتين، الأولى للتخفيف من العبء المالي للمحتل، والثانية للتخفيف من الضغط على الجيش، من اختناق الجنود، والتكاليف العسكرية بمئات ملايين الدولارات. هذا هو اتفاق أوسلو 1: أن تحل حكومة عسكرية محل أخرى وإدارة مدنية محل أخرى، وأن يزول كل العبء المالي والإنساني والنفسي الجاثم على كتفي المحتل.

صلاحيات السلطة الفلسطينية:

يؤكد البروتوكول المتعلق بانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة ومنطقة أريحا التحليل السابق عندما يجري في الفقرة 3ب من الملحق II تقليص كفاءة سلطة عرفات إلى حد "البنية، وصلاحيات ومسئوليات السلطة الفلسطينية في هذين القطاعين (حكومة عسكرية وإدارة مدنية) ما عدا النقاط التالية: الأمن الخارجي، المستعمرات، الإسرائيليون، العلاقات الخارجية، ومسائل أخرى ستحدد باتفاق مشترك". هذا اللايتموتيف "مسائل أخرى" ليس ابن صدفة، لأن المحتل يخشى أن يكون قد نسي بندا يقيد بالسلاسل أكثر الشعب الفلسطيني، فيترك لنفسه الباب مفتوحا على احتمال "مسائل أخرى" تعالج.

عند إعادتي لقراءة هذه الفقرة ظننتني أسمع المفاوض الإسرائيلي يقول لزميله العرفاتي: "قم بشغلك فيما يخص قمع شعبك واترك الباقي عليّ!" الباقي هو 90% من السيادة يُدعى "استثناءات"، ما هو جوهري لهوية وطنية من أجل أن ترى النور، إذ إن على الفلسطينيين أن يضطلعوا بمسؤولية أمنهم الخارجي، وعلى الفلسطينيين أن يديروا حياة المستعمرات على أرضهم، وعلى الفلسطينيين أن يحلوا وضع الأجانب في بلدهم بمن فيهم الإسرائيليين، وعلى الفلسطينيين أن يعنوا بعلاقاتهم الخارجية مع العالم، ولكن لا شيء من هذا أُعطي لهم. بالنسبة إلى انسحاب بسيط لعشرات الأمتار وحسب تقويم زمني "متفق عليه"، الثمن المدفوع مع هذا لهو ثمن غال وغال جدا. هذا ما أدعوه "تبعية كاملة وأسر كامل".

لن تقف الأمور عند هذا الحد، لم يعد المفاوض الإسرائيلي يملي شروطه، وضع المفاوض الإسرائيلي نفسه موضع المفاوض الفلسطيني، وراح يدير مفاوضات إسرائيلية-إسرائيلية. دخل قلبا وقالبا في المؤسسة البوليسية لعرفات وذلك باستحداث "لجنة ممتزجة فلسطينية-إسرائيلية للتنسيق والتعاون من أجل غايات أمنية متبادلة" ملحق II فقرة 3 إعلان المبادئ. وفي البند III فقرة 5 من اتفاق أوسلو يمكننا أن نقرأ أيضا: "ستقام لجنة مشتركة للتنسيق والتعاون في مادة الأشغال المدنية ولجنتان تحتيتان مشتركتان على مستوى المناطق للأشغال المدنية لقطاع غزة ومنطقة أريحا من أجل ضمان التعاون والتنسيق في مادة الأشغال المدنية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل كما جرى تفصيله في الملحق II." يخفي المصطلحان "تعاون وتنسيق" بشكل رديء التدخل الإسرائيلي والهيمنة الإسرائيلية. ومع هذا التكرار المتعب للمصطلح "أشغال مدنية" كما لو كنا نسمع من فم المفاوض المتعجرف الإسرائيلي: "أنا هنا في المادة المدنية مثلما أنا هناك في المادة العسكرية شئتم أم أبيتم وسأبقى"! وكل شيء يؤشر إلى أن ما يرمي إليه الاحتلال تبديل وجهه فقط لا غير، ويبقى الهدف دوما سحق شعب بأكمله، ابتلاع أرضه، ومحو تراثه.

سيذهب المحتل إلى أبعد فيما يخص هيمنته وتدخله في الشأن الفلسطيني عندما يحدد عدد أعضاء السلطة الفلسطينية، صلاحياتهم، ومسئولياتهم -نعم، مسئولياتهم- وإدارة المحافظات. ويكمن أسوأ الأسوأ في الطلب الموجه إلى منظمة التحرير بأن تنقل للإسرائيليين "أسماء أعضاء السلطة الفلسطينية وتخبر (الإسرائيليين) بكل تبديل في أعضائها، وستكون هذه التعديلات مقبولة بعد أن يتم تبادل رسائل في أمرها بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل" بند IV فقرة 3 اتفاق أوسلو. وفي إعلان المبادئ يمكننا قراءة بند IV فقرة 1: "يخبر الطرف الفلسطيني الطرف الإسرائيلي بأسماء الفلسطينيين المخولين بصلاحيات وكفاءات ومسئوليات يُكَلّف بها فلسطينيون طبقا... الخ."

أحالم أنا! تصبح منظمة التحرير هنا مركِّبا من مركِّبات الموساد لا شيء غيره. والمذهل أكثر الفقرة 4 من البند نفسه: "يلتزم كل عضو من أعضاء السلطة الفلسطينية في وظائفه بالعمل طبقا للاتفاق الحالي". وهذا نقيض كل حرية فردية، كل إصلاح يُسعى إليه، كل قرار يناقش. هذا ضربة سياط لما يشترطه البند III من إعلان المبادئ بخصوص انتخابات تجري "حسب المبادئ الديمقراطية"! ما يفسر التغمغم الانتخابي اللاحق مع أشخاص لم يكونوا أبدا ديمقراطيين، ولن يعرفوا أبدا أي لون للديمقراطية. هذا الشرط الذي يمليه منتصر لهو من العجرفة والعنف كما لم نر أبدا عبر التاريخ. حتى الحلفاء ضد النازيين لم يصيغوا شرطا مذلا كهذا ومع الأسف تم قبوله من طرف عرفات وأعوانه دون أدنى شعور بالعار. سيقبلون بالحضور المباشر للمحتل (مستعمرات، ثكنات عسكرية، نقاط استراتيجية) وبالحضور الغير المباشر (تحت شكل لجان ولجان تحتية) في كل ما ندعوه سلطة قضائية وظيفية وشخصية، بند V اتفاق أوسلو: الأرض، تحت الأرض، المياه، الأشخاص، الميدان الإلكترومغناطيسي، الفضاء الجوي، الترتيبات الشرعية والعون الشرعي في المادة العقابية والمدنية. يخرج المحتل من الباب ليعود من نافذة اللجان واللجان التحتية، وبصفته جسدا للقمع يقيم في المستعمرات والمناطق العسكرية التي لم ينسحب منها، والتي لن ينسحب أبدا منها طالما بقي سرطان المستعمرات هذا ينهش الأراضي المحتلة. يكفي أن نقرأ هذه الفقرة من البند V: "ستمارس إسرائيل سلطتها عن طريق حكومتها العسكرية التي ستستمر، من أجل هذا الغرض، في التمتع بسلطات ومسئوليات تشريعية وتنفيذية وقضائية ضرورية طبقا للقانون الدولي".

ولكن في أي عصر أعيش؟ في أي بلد إن لم يكن بلد عرفات! لا، ولكن هذا من المستحيل قبوله! ألف مرة من المستحيل قبوله! مائة ألف مرة من المستحيل قبوله! والأنكى من كل هذا أن المجتمع الدولي يصفق لمثل هذا اتفاق، لمثل هذه عبودية، لمثل هذا وضع في السلاسل! والأنظمة العربية، هذه الأنظمة الفاشية المزوقة بالديمقراطية على طريقة مبارك، تستلم الصفعة الإسرائيلية بكل وجهها من يد عرفات، وترتضي لنفسها بلعق طنجرة الخبيص هذا! والمثقفون العرب (عدا البعض طبعا)، هؤلاء المثقفون الجبناء بطبعهم، يعتزلون في الهامش الأكثر ضيقا لمجتمعهم، وبعدم نهوضهم ضد هذا المشروع الجهنمي الرامي إلى تصفية القضية الفلسطينية والهوية الفلسطينية الهوية العربية بكل بساطة، يثبتون أنهم عار الثقافة! كما وليست المرة الأولى ولا الأخيرة لحماية مصالحهم يمتنع هؤلاء المثقفون العرب عن دحض هذا التيار المسمى إسلامي. لم يرفعوا إصبعهم الأصغر ليجتثوا من الجذور هذه الرؤية المشوهة للإسلام، بينما يمكنهم تقديم رؤية جديدة عبر قراءتهم للقرآن قراءة منطقية وعلمية مبدين للعالم الوجه الحقيقي للتسامح ومساهمين هكذا بالفكر الكوني والإنساني. سيعي الغرب التلاعب بالإسلام أداة قمع نفسي وأيديولوجي في يد الحكام في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية طالما يخدمهم هذا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. إضافة إلى ذلك، هؤلاء المثقفون العرب لم يفعلوا شيئا ضد حرب العراق، ضد الاحتلال الأمريكي، ضد قلب حياة العراقيين والعرب في مجموعهم إلى جحيم. وعلى أي حال، هم لن يفعلوا شيئا ضد دبابات الجي آي ولا دبابات شارون، بينما عليهم يعود تفجير الحجج الرامية إلى تفنيد هذه الاعتداءات، وإظهار الصفة الموبوءة لسياسة الهيمنة هذه ذات المرامي القمعية.

لن تقف الأمور عند هذا الحد. عدا "الصلاحية المخولة لها في دفاتر التسجيل والإحصاء وإعطاء شهادات ميلاد..." بند VI فقرة 1د اتفاق أوسلو، تخضع السلطة الفلسطينية بكل صراحة للسلطة الإسرائيلية فيما يخص "الصلاحيات التشريعية المشترط عليها في البند VII من الاتفاق الحالي. ويمكننا أن نقرأ تحت الفقرة 3 من البند VII: "على القوانين التشريعية التي تصدرها السلطة الفلسطينية أن تُرفع للجنة تحتية تشكلها لجنة الأشغال المدنية (ستُدعى فيما بعد لجنة تحتية للتشريع). سيمكن لإسرائيل، خلال مدة 30 يوما ابتداء من رفع القوانين التشريعية، أن تطلب من لجنة التشريع التحتية تحديد إذا ما كانت هذه القوانين تتعدى السلطة القضائية للسلطة الفلسطينية أو تخالف بحالة أخرى نصوص الاتفاق الحالي."

وتحت الفقرة التحتية 4 من البند نفسه: "حال استلام الطلب الإسرائيلي، ستبت اللجنة التحتية للتشريع أولا في دخول القانون التشريعي المعني حيز التطبيق بانتظار أن تبدي إسرائيل رأيها في المشكل من حيث الجوهر."

ثم تأتي التفافات ودورانات من العقبات والتعقيدات لا نهاية لها عندما يتعلق الأمر بمجلس المراجعة، ثم بلجنة الاتصال، ثم لست أدري بماذا أيضا، ثم، ثم... للوصول إلى هذه الخاتمة التعسفية في الفقرة 9: "تبقى القوانين والنظم العسكرية المعمول بها في قطاع غزة ومنطقة أريحا السابقة على التوقيع على الاتفاق الحالي سائرة المفعول إلا إذا جرى تعديلها أو إلغاؤها طبقا للاتفاق الحالي."

لِمَ كل هذا التعب إذن بما أن الأساسي، القوانين والنظم العسكرية، ستبقى سائرة المفعول؟ الباقي الذي يقول "عدا إذا..." ليس إلا غِشا ودجلا، لأن كل مسعى إلى تغيير هذه النظم والقوانين لا يمر إلا بإرادة المحتل الإلهية.

لا، لا توجد صلاحيات تشريعية مستقلة لهذه سلطة جرت تصفيتها كبضاعة بأقل ثمن تدعى فلسطينية، وكذلك لا توجد صلاحيات تنفيذية يجري العمل بها بحرية إلا إذا كانت تخدم المصالح الإسرائيلية وتقوي من وضع يد الإسرائيليين على دولة عرفات. وخير ما يدل على ذلك الترتيبات التي تم اتخاذها بخصوص الأمن والنظام العام كما جاء وصفها في البند VIII من اتفاق أوسلو: مسئولية إسرائيل فقط في مادة الدفاع ضد "التهديدات" الخارجية (كما لو كانت هناك تهديدات خارجية) وتشكيل قوة بوليسية جبارة (للقمع الداخلي كما يريد الإسرائيليون). وأيضا لجان مشتركة ولجان تحتية، وأيضا بنود تعسفية من أجل الدفاع عن حصان طروادة الذي هو المستعمرات. باتجاه الفلسطينيين ليست هناك سوى الاشتراطات، ومن طرف الإسرائيليين ليست هناك سوى الأوامر والحبال المشدودة شدا خانقا. لنر كيف يقضي المحتل بتشكيل قوة بوليسية فلسطينية في البند IX:

"1. ستقيم السلطة الفلسطينية قوة بوليسية جبارة، المجلس الفلسطيني لقوة الشرطة (سيدعى فيما بعد "شرطة فلسطينية"). الواجبات، الوظائف، البنية، الانتشار، وتشكيل الشرطة الفلسطينية، وكذلك كيفية تجهيزها وعملها محددة في الملحق I، بند III. قوانين سلوكها الميداني محددة في الملحق I، بند VIII.

2. عدا الشرطة الفلسطينية المحددة في البند الحالي والقوات العسكرية الإسرائيلية لن تشكل قوة عسكرية أخرى أو تقوم بعمليات في قطاع غزة أو منطقة أريحا.

3. عدا أسلحة وعتاد وتجهيزات الشرطة الفلسطينية المحددة في الملحق I بند III وأسلحة وعتاد وتجهيزات القوات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة ومنطقة أريحا لن يكون أحد أهلا بصنع وبيع والحصول على وامتلاك واستيراد أو إدخال بأي وسيلة كانت إلى قطاع غزة ومنطقة أريحا أسلحة نارية ومعدات وألغام أو ما يشابهها عدا إجراء معاكس يقضي به الملحق I."

طبعا كل شيء محدد سلفا، العدد، التجهيزات، قوانين السلوك، والأسباب التي أنشئت من أجلها هذه "القوة البوليسية الجبارة"، الشرطة الفلسطينية. فيما يتعلق بهذه الأسباب، آخر فقرة ذات دلالة: تدمير كل تنظيم "إرهابي" (سيتبنى الطرفان كل الإجراءات الضرورية لتدارك أعمال الإرهاب... بند XVIII) بواسطة أسلحة يقدمها المحتل كما يريد وبالقدر الذي يراه مناسبا. أما بخصوص "الواجبات" الملزمة لهذه الشرطة، فهي واجبات لإخضاع الفرد لا لحمايته. وسيكون التجهيز بالسلاح والعتاد على علاقة بمستوى تجهيز التنظيمات الأخرى لا أكثر ولا أقل. لأن إسرائيل تخشى، مع اتفاق غير عادل كهذا، أن يتحول هذا السلاح إلى صدرها. ولدينا انطباع حين يلح المفاوض الإسرائيلي على التشكيل السريع لقوة بوليسية فلسطينية "جبارة" أنه على عجلة من أجل القضاء على الأشخاص والتنظيمات التي لم يستطع "تحييدها" هو نفسه. لم تجر هناك دعوة إلى الحرب الأهلية، ولكن كل شيء يشير إلى أن هذه للمفاوض الإسرائيلي أمنيته الأغلى على قلبه. وفي هذا يكمن "التسامح المتبادل" بند XII، بين الطرفين بالقدر الذي تنفذ فيه إدارة عرفات بنود هذا الاتفاق المتخلخل. ولا تأتي المسائل الأخرى مثل نقاط العبور، العلاقات الاقتصادية، حقوق الإنسان، أولوية القانون، إلا لوضع ماكياج على الهول الذي يراد القيام به، وجعل الناس تعتقد أن هذه السخرية المسماة "سلام عادل ودائم" هي منذ الآن فصاعدا ممكنة بعد سنوات من الحروب والعداء. ولكن في الواقع، ليس كل هذا سوى سراب، لأن كل شيء تم تحديده في صالح إسرائيل، في استمرار الحياة السائرة تحت الاحتلال: تمديد للتبعية الاقتصادية والعسكرية.

د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الإتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 23-31.

ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك

الفصل القادم: ما يجري على الأرض

www.parisjerusalem.net

Read more…

ترجمة الفصول الخاصة

باتفاقية أوسلو (1)

أكبر عملية نصب سياسية

في التاريخ

د. أفنان القاسم / باريس

في كتابي "دفاعا عن الشعب الفلسطيني"، أظهرت كيف نجح ياسر عرفات في تدجين الفلسطينيين من أجل القبول بأي حل سياسي، وإلا ما كان بإمكانه أبدا أن يجرؤ على الذهاب إلى أوسلو ليفاوض اتفاقا تصفويا هدفه محو القضية الفلسطينية نهائيا وهضم الحقوق الوطنية والإنسانية لشعب بأكمله. كان على عرفات أن يفسد كل مثقف، كل كادر، كل موظف. كان عليه أن يضع يده على كل مؤسسة، كل هيئة، كل جهاز. وبقوة النقود التي كانت السعودية وبلدان الخليج تصبها عليه بأمر الأمريكيين، جعل من نفسه إله كل نفس ضائعة أو قابلة للضياع. رفع إلى الذُروة (عدا البعض الذين خانوا طبقتهم واصطفوا إلى جانب الوطنيين) أبناء وأحفاد العائلات الكبرى البائعين أبا عن جد، والذين اشتهروا بتواطئهم الدائم مع السلطات القائمة سواء أكانت إنجليزية أو أردنية أو إسرائيلية –ويبقى مصطلح "خونة" ضعيفا جدا لوصفهم. وفي الوقت نفسه، جرجر سكان الأحياء الفقيرة ومخيمات اللاجئين في الوحول، أولئك الذين كان يدعي عدم ادخار أي جهد باسمهم من أجل تحرير فلسطين، بينما كان يعمل كل ما بوسعه من أجل التنازل عنها للإسرائيليين قطعة قطعة. لعبة مزدوجة كانت –وإلى اليوم- لوضع القناع على حقيقة أفعاله وأهدافه، فالقول شيء، والفعل شيء آخر. والقول لم يكن يكلفه أي شيء يذكر، كلمات اغترفت من قاموس البلاغة السياسية –الفصيحة والتقهقرية- للحكام العرب، والتي لا تقلق لا الإسرائيليين ولا الأمريكيين على الإطلاق بما أن بضاعة عرفات موجهة إلى السوق العربي الفلسطيني، وأقل من ذلك بما أنها لا تبدل شيئا من استراتيجيته المتآمرة والمفسدة، والتي ترمي إلى تركيع الشعب الفلسطيني، والعمل من يأسه عُملة تبادل بين الفلسطينيين. القليل أو لا شيء! كان يقول. اليوم، حتى القليل من المستحيل الحصول عليه، لأن الهدف النهائي هو التخلي عن كل شيء للإسرائيليين، عن الأرض، وعن الناس الذين عليهم أن يرضوا بحياة الأسرى والتبعية الكاملة في أرض إسرائيل. هذا هو اتفاق أوسلو، المدعو باتفاق رقم 1، للرابع من أيار/مايو 1994: حياة أسرى وتبعية كاملة في إسرائيل الكبرى التي تجمع إسرائيل المحددة بحدود 1948، الضفة الغربية، وقطاع غزة، أي فلسطين التاريخية.

وكما هي عادته عندما يتعلق الأمر "بعدم حل" في صالح إسرائيل، صفق الغرب، المُرائي والمتواطئ، للمبادرة، مرتديا ثوب العار والخزي إلى الأبد. أيد اليمين، لأن ذلك ما كانت تريده إسرائيل، وأيد اليسار، لأن ذلك ما كانت ترغب إسرائيل فيه وعرفات. والشعب الفلسطيني؟ ولكن للغرب يمينا ويسارا الشعب الفلسطيني هو عرفات! فساهموا بصوت واحد في حملة تبرير لهذا الاتفاق من أجل تعمية ملايين أخرى من النساء والرجال، وذلك بإخفاء مصيبة ما ترمي إليه لفلفة كهذه، وليبدوا كما يبدو أولئك الذين يقولون متحضرين عن أنفسهم، أناسا عاشقين للسلام والعدالة. ولكن، تحت قناع البنود والملحقات التي لا يقف واحد منها على قدميه، في الواقع هم قدموا دعمهم اللامشروط للعدوانية الإسرائيلية، وكذلك لشهية المستعمر، المؤلهة بصخب إعلامي يومي، والتي هي من خُلق كل سياسي إسرائيلي منذ هرتزل إلى شارون. إنه هذا الغرب الذي يمد الحكام الإسرائيليين بالمال والسلاح، حكام يعملون بسياسة دموية ومدمرة. وهذا الغرب الذي يصمت ويترك الإسرائيليين يفعلون ما يفعلون، بينما، وهو الواضع يده على الإقتصاد والعسكرة، يقبض على إسرائيل من خناقها: دون الغربيين، لا يمكن لإسرائيل العيش ولا حتى الوجود. ولكن لنقل صراحةً: في صالح الغربيين أن تسوء الحال، وفي صالحهم أن يبقى العالم العربي في حالة إنذار دائم دون أن تُترك له أية فرصة للنهوض ولعب الدور العائد عليه من أجل بنائه ومساهمته في بناء العالم. خطر دائم وحرب دون توقف لا تترك له الوقت ليستعيد أنفاسه. آخر حرب كانت هي حرب العراق على أيدي الأمريكيين وتواطؤ كل الغربيين بمن فيهم "أبطال" جبهة الرفض السلبي.

وهكذا مدعوسة ومفرقة، لا توجد البلدان العربية إلا بالإسم، وقد غدت عنابر نوم لملايين من الأفراد، محكومين من طرف طغاة يبدي لهم الغرب إعجابه ويشجعهم، وهم في الحقيقة جبناء تحت إمرة الموساد والسي آي إيه. وكان بإمكان هؤلاء المستبدين أن يضغطوا على الغرب، وذلك بإغلاق حنفية النفط، من أجل أن يفرضوا حلا مشرفا يرضى عنه الطرفان –الإسرائيلي والفلسطيني- ولكن كما هي عادتهم عندما يتعلق الأمر بالرهانات الوطنية الكبرى والقرارات السياسية التي تمس سلطاتهم وامتيازاتهم مباشرة، يمتنعون بعناية عن القيام بكل مبادرة في هذا الاتجاه، ولا يبقى لهم من اختيار آخر سوى الصف في صفوف اتفاق أوسلو. فلسطين التي لا تدعهم ينعمون بالنوم الهادئ في الليل وقّعت أخيرا على وثيقة إبادتها بيد فلسطيني، عرفات، ونَعَمّا حدث! هو حل آت من الفلسطينيين أنفسهم أيا كانت النتائج! ومنذ الآن فصاعدا فُتحت لهم الطريق إلى تل أبيب من أجل الذهاب إليها والصلاة في وضح النهار. سيتم خلق بلد هو عنبر للنوم جديد، والتعاضد بين الأنظمة الدكتاتورية شيء موجود، وهنا يكمن معنى القوة "الجبارة" للشرطة الفلسطينية المشترط عليها في اتفاق أوسلو (بند VIII، تصريح المبادئ).

ما تبقى لا حساب له، لأن الأمريكيين عبر هيمنتهم الإقتصادية والعسكرية صنعوا من هذه الشبه البلدان حجارة شطرنج لا أكثر ولا أقل، وبالتالي تعتمد أكبر عملية نصب سياسية في التاريخ الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية على قاعدة عالمية مصانة بقوة من طرف الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية، أمريكا وإسرائيل الحليفة التي خصتها أمريكا بنعمها، طالما بقي النفط العربي موجودا والهيمنة على المنطقة مطلبا استراتيجيا.

د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الإتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 9-14.

ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك

الفصل القادم: تمهيد للأسر والتبعية الكاملة

www.parisjerusalem.net

Read more…

ترجمة الفصل الخاص

بمذكرة شرم الشيخ

الذباب أكثر أهمية من العباد!

نص يشبه آخر

في آخر الصيف، شمس شرم الشيخ جميلة، والبحر أزرق. في 4 سبتمبر 1999، انتقلت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، إلى المدينة الزرقاء الواقعة على خاصرة البحر الأحمر من أجل أن تقوم بدورها كعرّابة للتوقيع على اتفاق آخر وآخر بين العرفاتيين والإسرائيليين، كما قالت وسائل الإعلام، ولكن في الواقع من أجل العوم والتمتع إلى أقصى حد بذلك الذهب وذلك اللازورد اللذين يشدان الأجساد والوجوه المهددة بالتهدل. الباقي كلام فارغ، الحضور الكابوسي لمبارك، الابتسامة الخلابة لعبد الله الثاني. كل تلك الشخصيات كانت هناك لإعطاء انطباع أن الأمر جاد، وأن الشريكين باراك-عرفات (قَرَنٌ مقطور) توصلا أخيرا إلى تذليل كل الصعوبات. مع هذا الاتفاق الذي ضَمِنَهُ كل أولئك "الكبار" أعطى عرفات لنفسه مهلة جديدة ليسوس "الوضع الراهن" وقد اطمأن إلى أن أحدا لن يسأله لماذا. سيسوس أيضا عدم صبر الشعب الفلسطيني، وذلك بجعله يعتقد أن هناك معجزة بصدد التحقق. ومع ذلك، ما عدا الشمس والبحر، تمخضت شرم الشيخ فولدت فأرا... صغيرا جدا. برأس وذيل أشبه برأس وذيل الفأر الصغير جدا الآخر الذي ولدته واي بلانتيشن. الشبه هنا مذهل، لأن مذكرة شرم الشيخ تبدأ كالسطور الأولى التي اقترحها نتنياهو على عرفات أو عرفات على نتنياهو في واي بلانتيشن: "الاتفاقات اللاحقة صائرة إلى تسهيل تطبيق الاتفاق المؤقت حول الضفة الغربية وقطاع غزة الموقع في 28 سبتمبر 1995 ("الاتفاق المؤقت") واتفاقات أخرى مرتبطة به بما فيها الملاحظة من أجل مذكرة 17 يونيو 1997 (مشار إليها تحت ك "اتفاقات سابقة") كي يتمكن الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني من تحمل مسئولياتهما المتبادلة بشكل أكثر حسما بما فيها المسئوليات المتبادلة التي لها علاقة بإعادة انتشارات إضافية وبالأمن".


لنقرأ بداية اتفاق شرم الشيخ: "تلتزم حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بالتطبيق الكامل والمتبادل للاتفاق المؤقت وكل الاتفاقات الأخرى التي تمت منذ سبتمبر 1993 (المسماة فيما بعد "اتفاقات سابقة") وكل الالتزامات المعلقة الناجمة عن الاتفاقات السابقة."

يثبت الإلحاح بهذه الطريقة على تطبيق الاتفاقات التي تم التوقيع عليها إلى أية درجة الريبة القائمة بين الطرفين، مع باراك العمالي أو نتنياهو الليكودي. ويثبت هذا أيضا الدرجة العظمى التي وصل إليها الشك المحلق فوق رؤوس المفاوضين من طرف وآخر فيما يخص تطبيق واحترام هذه الاتفاقات. إذا كانت هناك مسألة انسحاب لم يتم تنفيذه من طرف الإسرائيليين هناك مسألة أمن لم يتم تأمينه من طرف العرفاتيين. وتفرض مماطلة الطرف الإسرائيلي حول الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية على الطرف العرفاتي التلويح برُهاب تغيير الوضع في هذه الأراضي نفسها وذلك بالإعلان عن دولة فلسطينية. ولهذا السبب يُخْتَتَم الاتفاقان مع نتنياهو ومع باراك حول نفس البند الوقائي.

الاتفاق مع نتنياهو أولا: "بدافع من وعيهما بضرورة خلق جو مناسب لهذه المفاوضات، يلتزم الطرفان بعدم اتخاذ إجراءات تغير الوضع في الضفة الغربية أو في غزة وذلك كما ينص عليه الإتفاق المؤقت."

والاتفاق مع باراك: "اعترافا منهما بضرورة خلق مناخ مناسب للمفاوضات، يلتزم الطرفان بعدم اتخاذ أي إجراء يغير من الوضع في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وذلك تطبيقا للإتفاق المؤقت." مما يفرض على الطرف العرفاتي عدم الإعلان عن دولة فلسطينية من طرف واحد.

هذا ما أسميه تشابها بين الاتفاقين، وإذا ما تم التوقيع عليهما، فلأن هناك خطر الإعلان عن دولة فلسطينية، ولا تهدف كل هذه الكوميديا الرديئة التمثيل إلا لإعاقة شيء كهذا، وإن بقي ذلك في حدود الأحلام.

إذن تُمارَس سياسة اللف والدوران، فنتنياهو ليس أكثر مهارة من باراك، حتى عمالي من حزب العمل يمكنه المزايدة، إذ إن للحكام الإسرائيليين في رأسهم كلهم هذا الحلم المجنون للسيطرة، وأمامهم هناك رجل الكوفية الخالدة، الموافق على كل شيء. هو أيضا لا يتغير، تبقى استراتيجيته واحدة: التخلي، التخلي، التخلي.

الوضع الدائم:

لا يكاد الوضع النهائي للأراضي المحتلة يذكر في اتفاقيات واي ريفر، وهنا لا توجد سوى تأكيدات بليغة ليست غير كلمات لا أكثر كالمثال التالي:

"أ. في إطار تطبيق الاتفاقات السابقة، سيعود الطرفان إلى التفاوض حول الوضع الدائم بإيقاع متسارع، وسيبذلان جهدهما بعزم وتصميم للوصول إلى هدفهما المشترك الذي هو إيجاد اتفاق حول الوضع الدائم حسب جدول الأعمال الذي جرى التوقف عنده والذي يتعلق بالمسائل الخاصة العائدة إلى المفاوضين المكلفين بالوضع الدائم ومسائل أخرى ذات اهتمام مشترك.

ب. يعيد الطرفان تأكيد أنه لمن المتفاهم عليه أن المفاوضات حول الوضع الدائم ستتوصل إلى العمل بالقرارين 242 و 338 لمجلس الأمن.

ج. سيبذل الطرفان جهدهما بعزم وتصميم للتوصل إلى اتفاق-إطار حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم خلال مدة خمسة أشهر ابتداء من العودة إلى المفاوضات حول الوضع الدائم.

د. سيبرم الطرفان اتفاقا شاملا حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم في مدة عام ابتداء من العودة إلى المفاوضات حول الوضع الدائم.

ه. ستعود المفاوضات حول الوضع الدائم بعد تطبيق المرحلة الأولى من تحرير المعتقلين والمرحلة الثانية من إعادة الإنتشار الأولى والثانية اللاحقتين، وإلى أقصى أجل 31 سبتمبر 1999. لقد أبدت الولايات المتحدة في مذكرة واي ريفر إرادتها لتسهيل هذه المفاوضات."

سيعود الطرفان إلى التفاوض حول الوضع الدائم، ستتوصل المفاوضات إلى العمل بقراري 242 و 338 لمجلس الأمن، سيبرم الطرفان اتفاقا شاملا حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم، سيبذل الطرفان جهدهما بعزم وتصميم للتوصل إلى اتفاق-إطار حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم، ستعود المفاوضات حول الوضع الدائم بعد تطبيق المرحلة الأولى من تحرير المعتقلين والمرحلة الثانية من إعادة الإنتشار الأولى والثانية اللاحقتين... إنها دوما قذفة الحجر المؤجلة، من أجل لا شيء غير تعكير الماء الراكد للوضع الراهن. يفلت الصدق من أيدي المفاوضين. حتى ولو كانت هناك إرادة ونوايا حسنة، في الوضع كما يجري تقديمه حاليا لن تتوصل المفاوضات القادمة أبدا، أقول أبدا، إلى العمل بالقرارين 242 و 338 لمجلس الأمن. لهذا تم ذكر "اتفاق-إطار" وآخر "شامل". لأن لو كانت حقا هناك إرادة بناءة من طرف أو من آخر لحل نهائي لوضع الأراضي المحتلة، لماذا إذن المرور باتفاق يدعى باتفاق-إطار الذي على أي حال لن يرى النور؟ سيفرض الاتفاق الشامل محادثات صريحة حول إقامة دولة فلسطينية القدس عاصمة لها منذ البداية، دون المرور باتفاقات أخرى تكرس المماطلة وعدم اليقين. على عكس ما قيل في الفقرة ه حول ما أبداه الأمريكان لتسهيل المفاوضات، تضع الإرادة السيئة حدا لكل حل نهائي.

إذن يجري الكلام عن الوضع النهائي دون يكون ذلك حقا ودون رسم الخطوة الأولى لآلية تصل في النهاية إلى اتفاق نهائي، وإن تشابه الاتفاقات بين عرفاتيين وحكومات إسرائيل من اليسار أم اليمين لا يترك لي الهامش الذي أتمناه من أجل تحليل مفصل. لهذا السبب، سأعالج في الفصل القادم مجموع مذكرة شرم الشيخ مع التشديد على ما تفضلت حكومة باراك القيام به وما لم تتفضل في صالح "السلام الإسرائيلي"، سلام تصفوي على كل حال.

فتات، لا شيء غير فتات:

فيما يخص إعادة الانتشارات في الضفة الغربية، هناك إعادة أولى تمت بمقدار 7% في 5 سبتمبر 1999، إعادة انتشار كاذبة بما أنه بقيت في المنطقة التي تم الانسحاب منها مراقبة مشتركة إسرائيلية-فلسطينية. تمت إعادتا الانتشار في 15 نوفمبر 1999 وفي 20 يناير 2000، ولكن فيما يخص كله بكله 9,1% من الضفة الغربية، بمعنى لا شيء بالنسبة لفلسطين التاريخية.

فيما يخص المعتقلين، تم إطلاق سراح مجموعة أولى من 200 معتقل في 5 سبتمبر 1999 ومجموعة ثانية من 150 معتقل في 8 أكتوبر 1999 ومجموعة ثالثة لم يحدد عددها عشية رمضان. ويمثل كل الذين أطلق سراحهم نسبة مئوية ضئيلة بالنسبة لآلاف المعتقلين السياسيين الذين يأسنون في غياهب السجون الإسرائيلية.

فيما يخص المسار الجنوبي لطرق العبور، تم فتح طريق عبور "آمن" بين غزة والضفة الغربية في 1 أكتوبر 1999 إلا أن الطريق الشمالي الآخر لم ير النور. وب "آمن" يجب فهم أن الذين يشرفون على نقاط المراقبة الإسرائيلية هم أسياد كل إيماءة، كل حركة، كل نقل، كل انتقال، حتى انتقال ذبابة لن يُسمح له إلا بأمر صادر عن الجيش الإسرائيلي.

فيما يخص ميناء غزة، بدأ بناؤه في 1 أكتوبر 1999، ولكن بناء ميناء أو لا بناء ميناء ليس هذا هو المشكل. الأهم هو "التصور والانتقال" كما تقول المذكرة، بمعنى حق الإسرائيليين في "النظر". وبكلام آخر، وجود كاميرات مراقبة مرتبطة بالموساد مباشرة كما هو الحال في المطار. لن تمر بضاعة واحدة دون تصريح إسرائيلي، لن يمر شخص واحد، لن تمر ذبابة واحدة. من الأكيد أن للذباب أكثر أهمية من العباد في مثل هذه الاتفاقات على الطريقة العرفاتية!

فيما يخص المسائل الخاصة بالخليل، لم تُفتح طريق الشهداء، ولا طريق الحسبة، ولا موقع مقام إبراهيم، وإذا كان هناك من رابح وحيد فهم المستوطنون.

فيما يخص الأمن، هناك هذه اللازمة التي لا تتوقف عن الرجوع، "تعاون حاسم وفعلي" ضد "الإرهاب"، "الإرهاب"، "الإرهاب"... "يلتزم الطرف الفلسطيني بتحمل مسئولياته في مادة الأمن، في التعاون على الأمن، وبفروضه اليومية". يلتزم، يلتزم، يلتزم... باختصار، يطلب الإسرائيليون بوصفهم محتلين من العرفاتيين أن يحلوا في مادة القمع محلهم، تحت خطر أن يؤدي ذلك إلى حرب أهلية. الجديد: يصطف باراك العمالي (أي بهدلة للعمال!) دون لبس وبكل قحة إلى جانب نتنياهو الليكودي وذلك عندما ينسخ عن هذا ويمتلك بنوده "وعلى الخصوص الفروض التالية الناجمة عن مذكرة واي ريفر:

1. مواصلة برنامج جمع الأسلحة اللاشرعية وتقرير حول الموضوع.

2. إيقاف المشتبهين وتقرير حول الموضوع.

3. تسليم الطرف الإسرائيلي قائمة بأسماء أفراد البوليس الفلسطينيين أقصى أجل 13 سبتمبر 1999.

4. بداية فحص القائمة من طرف لجنة المتابعة والإرشاد أقصى أجل 15 أكتوبر 1999."

... تسليم أسماء أفراد البوليس وكل الباقي، هذا هو المذهل: لم يكن الغستابو يفعل مع دُمى فيشي أفضل! ولكنهم في آخر المطاف هم المهرجون أنفسهم في زمان آخر ومكان آخر.

د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الإتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 57-65.

ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك

www.parisjerusalem.net

Read more…


ترجمة الفصول الخاصة
باتفاقية أوسلو (2)
تمهيد للأسر
والتبعية الكاملة
د. أفنان القاسم / باريس
كان كل شيء واضحا منذ البداية، ومع ذلك. يرتكز اتفاق أوسلو 1 على تسوية بخصوص غزة وأريحا، فقط غزة وأريحا، تسوية مريبة، وبما أنها لا تعالج على الفور مستقبل كل الأراضي المحتلة، يشتم منها رائحة الخداع والغِش على نحو مزعج. وكما يقال "يقرأ الموضوع من عنوانه"، هنا، يلخص العنوان "اتفاق غزة-أريحا أولا" كل شيء. لن تذهب الأشياء إلى أبعد، فما هذا سوى ذر للرماد في العيون. ليس هناك صدق في النوايا ولا إرادة لإقامة سلام عادل. ومنذ المنطلق، تجنب الاتفاق البت في الحقوق الفلسطينية، حتى ولو كانت بنود الاتفاق تجعلنا نعتقد بحل لاحق فيما يخص مجموع الأراضي المحتلة. لقد تم ابتلاعها من طرف الشهية التوسعية والكولونيالية للمفاوض الإسرائيلي الذي يتخلى غصبا عنه عن جزء من "حلمه التوراتي". غزة وأريحا مدينتان لا تتعلق اليهودية بهما، فتاريخهما ملطخ بالدم والدمع اللذين عانى منهما الإسرائيليون القدامى، وهو السبب الذي اختارت إسرائيل من أجله هاتين المدينتين كقاعدة لحل مع الفلسطينيين. ثم تأتي بعد ذلك الأسباب السياسية، ولكن خاصة لأن كل الأرمادا الإسرائيلية لم تستطع إنهاء المقاومة الشعبية للغزيين. بتوقيعه على اتفاق كهذا، يرمي المفاوض الإسرائيلي أولا وقبل كل شيء إلى تحطيم هذه المقاومة بقبضة فلسطينية قوية (فلسطينيون سيتفاهمون فيما بينهم) مع احتفاظه بامتيازاته وتفوقه. ولكن قبل نقل السلطة إلى عرفات من أجل أن "يدير" الأمور ويحيل الشعب الفلسطيني إلى شعب أسير تحت التبعية الكاملة، يجدر إدخال هذه الاتفاقات بلطافة، مع مراسيم كونية، هذا ما يوجبه النصب السياسي والتاريخي. من هنا جاء إعلان المبادئ حول تهيئة الحكم الذاتي المؤقت على إيقاع الطبول والدفوف في واشنطن يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993. هذا الإعلان الذي يُظهر دون أدنى شك كيفية العمل لتعبيدِ طريقِ تخلٍ على المقاس عن حقوق الشعب الفلسطيني الشرعية، مع "ديناميكية" داخلية لبنود تشجع الانحباس كمن ينحبس أحدهم في دير والخضوع الاقتصادي والاجتماعي وحتى الفردي للسلطات الإسرائيلية، بواسطة تشريع هذه المرامي المضللة منذ البداية، وذلك بإقامة مجلس ذي "سلطات تشريعية وتنفيذية" بند VII.
المجلس:
نقرأ في البند الأول –وليس صدفةً أن يكون البند الأول- من إعلان 13 سبتمبر 1993: "وعلى الخصوص للمفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية الجارية في إطار صيرورة السلام الحالي في الشرق الأوسط هدف إقامة سلطة فلسطينية مؤقتة ذاتية الحكم، وهي المجلس المنتخب ("المجلس")، لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة...".
نقع منذ النظرة الأولى على تعسف فاضح في مصطلحات الحقوق يناقض ما يؤكده استهلال اتفاق غزة-أريحا والذي هو عزم وتصميم حكومة دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (منظمة التحرير) "على التعايش في حال سلمية، في الكرامة والأمن المتبادلين، مع الاعتراف بحقوقهما السياسية والشرعية المتبادلة". لا تسمح الحقوق السياسية والشرعية المتبادلة بأي حال من الأحوال لا للطرف الأول ولا للطرف الثاني أن تكون له نظرة، وأول شيء في مفاوضات كهذه، على ما يفهمه الطرف الأول أو الطرف الثاني من "إقامة سلطة"، لأنه حق يقتصر على هذا الطرف أو ذاك بعد اعتراف الواحد بالآخر. على منظمة التحرير وفقط منظمة التحرير أن ترى كيف يقام مجلسها التشريعي وأن تحدد مدى سلطته. لا علاقة لإسرائيل بهذا الخصوص، والشيء نفسه للمفاوض الفلسطيني بخصوص الكنيست. ولكن هناك وراء هذا البند الذي يبدو في الظاهر "محفزا" ويرمي إلى ما هو "إيجابي" و"بَنّاء" شبكة من شِباك العناكب.
كل شيء يبدأ بهذا السؤال: منظمة التحرير بمركِّباتها السياسية كما هو متلاعب بها هل تمثل حقا الشعب الفلسطيني؟ بالطبع لا. ومع ذلك اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير يشرّع ممثلا مصيره الدخول من الباب الواسع في صيرورة تُدعى سلاما ولكنه في الواقع إملاء معد من أجل السماح لتطبيق سياسة تأتمر بأوامر المفاوض الإسرائيلي. هذه هي منظمة تحرير معترف بها من طرف إسرائيل، منظمة تحرير تسهر على إرضاء ما توجبه تل أبيب –وتخلي عرفات عن "الإرهاب" في رسالته إلى رابين بتاريخ 9 سبتمبر مماثلا كل مقاومة الشعب الفلسطيني، كل تضحياته، كل شهدائه بالإرهاب، هو إشارة يبدأ بها تنفيذ كل الإجراءات التالية التي ستضع حدا لكل حرية، لكل أمل، وعلى عكس ما جرى ذكره في تمهيد اتفاق غزة-أريحا والادعاء به، ستضع حدا لكل كرامة. هكذا يفهم المفاوض الإسرائيلي "التعايش في حال سلمية" مع الفلسطينيين، حيث لا يفكر إلا في أمنه هو وذلك حسب معايير محددة في صالحه هو، فيعمل كل ما بوسعه لتشريع ما يقوم به عرفات في هذا الاتجاه، وذلك بخلقِ مجلسٍ مقامٍ من ألفه إلى يائه حسب الوصفة التي يراها المفاوض الإسرائيلي.
وهكذا في البند III من إعلان المبادئ يجري عرض الأهداف والوسائل لمجلس كهذا كما يلي: "لأجل أن يتمكن فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم أنفسهم حسب المبادئ الديمقراطية سيجري تنظيم انتخابات سياسية عامة حرة ومباشرة للمجلس تحت مراقبة متفق عليها وإشراف دولي بينما يسهر البوليس الفلسطيني على حفظ النظام العام".
طبعا! سيسهر البوليس الفلسطيني على حفظ النظام العام بدلا من جيش الاحتلال تحت "المراقبة المتفق عليها" بين الإسرائيليين وعرفات. شيء خطير، وحتى شيطاني، هذه المراقبة "المتفق عليها"، المعارضة لكل مبدأ ديمقراطي. أضف إلى ذلك أن البروتوكول المتعلق باشتراطات الانتخابات وشروطها يشكل تدخلا لا يمكن قبوله في الشؤون الفلسطينية المحضة، عندما يتعلق الأمر بالقواعد والأنظمة، عندما يتعلق الأمر بتشكيل المشرفين على عمليات المراقبة والإشراف الدولي كما هو "متفق عليه"، عندما يتعلق الأمر بترتيبات وضع وسائل الإعلام ترتيبات "متفق عليها". أما الباقي، "انتخابات حرة ومباشرة" ما هو سوى كلمات طنانة لا أكثر. لأن عرفات، بإشراف دولي أو غيره، قادر على خداع الحياة.
ولنفترض أن هذه الانتخابات لهذا مجلس تدور حسب "المبادئ الديمقراطية"، ستُعرف النتائج مسبقا في صالح فتح، أكبر مركِّبات منظمة التحرير، يعني في صالح عرفات. حتى ولو لم تقاطع حماس وباقي الإسلاميين الانتخابات سيجد عرفات الوسائل التي تمكنه من الحصول على الأغلبية وذلك بالتحالف مع "مقاتلين" آخرين لتحرير تلك المسكينة فلسطين. وفي حالة عدم توصله إلى ذلك، ستطبخ الطبخة في الكواليس كالعادة. هنا من واجبي القول إنني لا أوجه اللوم إلى مناضلي فتح في إطار هذا التحليل، وما في مرماي سوى قياديي هذه الحركة الفاسدين والبائعين الذين يعتبرون القاعدة ككمية مهملة. على مناضلي الحركة أن يتبعوا أوامر شخص واحد أوحد، الإله الفتحاوي، عرفات. دون مناقشة أقل برنامج، أقل تكتيك، أقل استراتيجية. المجلس الذي يقال عنه تشريعي ما هو إذن تشريعي إلا بالإسم، وبغياب حماس ومن لف لفها هو مجلس عرفاتي مائة بالمائة، لأن الفصائل الأخرى ما أسهل إفسادها لتتبع الخط السياسي الذي يختطه إله من يسمون أنفسهم بالديمقراطيين.
الديمقراطية إذن ليست سوى شكلية، وهي تستعمل لتمرير أوامر الدكتاتور، ذلك الذي يستلم الأوامر من الإسرائيليين. هنا يكمن معنى "انتخابات سياسية عامة حرة ومباشرة لأجل أن يتمكن فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم أنفسهم". ليتمكن عرفات والإسرائيليون من تبديل حكومة عسكرية بحكومة بوليسية. اطلبوا إلى مبارك الذي هو في الحكم منذ ثلاثمائة سنة يقل لكم هو أيضا: "أنا ديمقراطي وانتخاباتي حرة ومباشرة"!
والأنكى من كل هذا ما في الفقرة 3 من البند نفسه الخاص بانتخابات المجلس إياه حيث يُشترط بشكل مدع وغريب، وباتفاق مع المفاوض الإسرائيلي، أن تشكل "هذه الانتخابات مرحلة تحضيرية ومؤقتة هامة على طريق تحقيق الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني وطلباته العادلة." لأن ما حصل هو العكس، وإلا ما كان للمفاوض الإسرائيلي أن يبتلع مطمحا كهذا آتيا من عرفات ومن زمرته الأوسلوية الجبانة. كل شيء إذن مرتب أحسن ترتيب بخصوص المجلس.
السلطة الفلسطينية:
الإعداد لمجلس كهذا ذي "سلطات تنفيذية وتشريعية" سيأخذ تسعة شهور على الأقل، والدخول في تنفيذ الإعلان الحالي حول تنظيم الحكم الذاتي المؤقت شهرا بعد التوقيع على هذا الإعلان، وبالتالي يأتي اللعب بكلمات مثل "ممثلي الشعب الفلسطيني" بند V، "فلسطينيين معينين لهذه المهمة" بند VI، بمعنى عرفات وأتباعه ولا أحد غيرهم ممن لا يعينهم المحتل، ونعمل سلطة قبل قيام "السلطة"، ففي آخر الحساب الشيء نفسه، وذلك من أجل تسليم سلطات مكملة وبأكمل تبعية لسلطات الحكم العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين من أجل الاحتفاظ بالطوق مشدودا على رقابهم. هذا ما يعنيه مفهوم الحكم الذاتي في رأس المفاوض الإسرائيلي، فيجري تنفيذ تسليم الكفاءات "للفلسطينيين المعينين من أجل هذه المهمة" في الميادين التالية: " تربية وثقافة، صحة، حماية اجتماعية، ضرائب مباشرة وسياحة" بند VI. وهي في الواقع ميادين فنتازية لكنها تخفف الشيء الكثير من ثقل ميزانية المحتل. وفي الظروف الحالية، يدفع ميدان "السياحة" إلى الضحك حتى جريان الدمع من العينين، وميدان "الضرائب المباشرة"، وخاصة "المباشرة"، الذي يُرثى له إذا ما رأينا الحالة الاقتصادية الكارثية للفلسطينيين. ولكنه امتحان مهم لعرفات كي يثبت قدرته على التصرف كرئيس دولة على الطريقة المباركية، بمعنى أنه قادر على إدارة اقتصاد مفلس بالتحويل إلى حسابه ثلث المساعدات المالية. دون أن ننسى تشكيل قوة قمعية: "يبدأ الطرف الفلسطيني بتشكيل قوة بوليسية فلسطينية كما تم الاتفاق عليه" بند VI، فقرة 2. سنرى فيما بعد كيف سيجري تشكيل هذه القوة "كما تم الاتفاق عليه".
إذن ليست سلطة عرفات هنا إلا لأجل التخفيف من نفقات الإسرائيليين في الأراضي المحتلة والإشراف على القمع الداخلي وذلك بإقامة جسد بوليسي قادر على مواجهة الاضطرابات والهيجانات الشعبية غير المتفق عليها. ولتمويه المرامي التي من أجلها وُضعت هذه السلطة، تنعت هذه السلطة نفسها "بالوطنية"، وهذا ماكياج لا يخدع مع ذلك أحدا: السلطة الوطنية الفلسطينية! "ماركة" ترددها وسائل إعلام عرفات وكذلك وسائل الإعلام العربية كبضاعة للسوق العربي-العربي، عكس كل الاتفاقات التي تمت مع إسرائيل التي تمنع النعوت وتوجب وصف السلطة الفلسطينية بالسلطة الفلسطينية فقط، والإسرائيليون لا يقولون شيئا، لأن هذا يساعدهم على تعميم أوامرهم عن طريق عرفات تحت غطاء "وطني"، وطالما لا يمس بالأساسي مما تم الاتفاق عليه بينهم وبين رجلهم "المعين لهذه المهمة". كان الإنجليز يقولون للفلسطينيين عندما يصرخون ويحتجون: "قولوا ما شئتم، ولكن إياكم أن تفعلوا، وإلا سحقناكم!" وهذه هي السلطة "الوطنية" الفلسطينية!
إعادة انتشار القوات الإسرائيلية:
قلته في كتابي "دفاعا عن الشعب الفلسطيني"، وأعيده هنا. لنتخيل لحظةً أن قوات الاحتلال الألمانية، للانسحاب من باريس، قامت بإعادة انتشار إلى فنسن أو لا دفنس، منطقتين قريبتين من باريس. ستكون مسخرة المساخر! ولكن ويا للتعاسة! هذه هي الحال مع قطاع غزة ومنطقة أريحا ولكل مدن الضفة الغربية الأخرى، انسحاب يتم "حتى أقصى أجل عند عشية انتخابات المجلس" بند XIII. ليست فقط إعادة انتشار "خارج المناطق المأهولة" بند XII، فقرة 2، ولكن إعادة انتشار تنفذ حسب شروط جائرة، "متوافقة مع أخذ البوليس الفلسطيني على عاتقه بمسؤولية النظام العام والأمن الداخلي" بند XIII، فقرة 3. والواقع، المقصود إعادة انتشار لعدة كيلومترات، وعلى مراحل، ليس حالا، وبالعلاقة مع توريط القوة القمعية التي يتحكم بها عرفات. كم مترا سينسحب منها قوات الجيش الإسرائيلي الأشاوس في كل مرحلة؟ مهزلة القدر: لم يجر أي اتفاق حول هذه المسألة في اللحظة التي تم فيها التصريح عن إعلان المبادئ. وإذا ما جرى التوقيع عليه، "سيحتوي هذا الاتفاق -كما يمكن للمرء أن يقرأ في الملحق II، فقرة 1- على ترتيبات مفصلة يجب أن تطبق في قطاع غزة ومنطقة أريحا عندما تنسحب إسرائيل." ومن طبيعة الحال ترتيبات ستكون استبدادية من طرف السلطة الفلسطينية، وسأعالجها بالتفصيل في الوقت المناسب. ولكن الأهم في كل هذا الكيفية التي سيدور فيها هذا الانسحاب التدريجي لعدة كيلومترات وعدة أمتار على مراحل: "حسب تقويم زمني يُعَدّ لذلك" ملحق II، فقرة2. ومن يقول تقويم زمني يعني مماطلة. ولكن يعمل المفاوض الفلسطيني كل شيء لأجل طمأنة المحتل، والمحتل بدوره يحتاط لكل شيء بفرضه ترتيبات ترمي إلى توريث "الفلسطينيين المعينين لتنفيذ هذه المهمة" السلطة العسكرية والمدنية على هاتين المنطقتين اللتين هما أريحا وغزة، "دون اصطدامات وسلميا" ملحق II، فقرة 3 أ، "عدا النقاط التالية: أمن خارجي، منشآت (لا يقولون مستوطنات هؤلاء الدجالين الفلسطينيين!)، إسرائيليون، علاقات خارجية ومسائل أخرى ستُحَدد باتفاق مشترك" ملحق II، فقرة 3 ب. بمعنى الأساسي الذي نُحِّيَ إلى جانب. سيتناقش المفاوضان الإسرائيلي والفلسطيني فيها فيما بعد، في المستقبل. إنه هذا التأجيل الذي لا يصمد، هذه الاتفاقات الغامضة التي لن يرى تطبيقها النور أبدا، هذا الهرب إلى الأمام المتعمد الذي سيغدو "قانونا" والذي سينسف العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية. نحس أن المفاوض الإسرائيلي يسعى إلى كسب الوقت، أنه ليس صادقا، أنه يحتال على مفاوض عرفات بينما يبتسم له هذا ببلاهة مراهنا على ما لست أدري من فُتحة يمكن له عبرها التوصل إلى انتزاع تنازل ما لتبرير هذه الاتفاقات وليبرر نفسه لدى شعبه. لو أن الإسرائيليين ما احتفظوا في سريرتهم ألا يتخلوا عن شيء لانسحبوا في الحال ودون شروط مسبقة من كل الأراضي المحتلة وليس فقط من منطقة أريحا وقطاع غزة، هذين الثقبين، وعلى بعد عشرة أمتار من سكنى الناس، وفوق هذا حسب تقويم زمني – يا لوقاحة أولئك المفاوضين مفاوضي العاصمة النرويجية!

د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الإتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 15-22.
ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك

الفصل القادم: الأسر والتبعية الكاملة
Read more…

ترجمة الفصول الخاصة

باتفاقية أوسلو (4 وأخير)

ما يجري

على الأرض

د. أفنان القاسم / باريس

كان للطنطنة العالمية التي جرت حول عودة عرفات إلى غزة هدف واحد أوحد: اعتقاد العالم أجمع أن القضية الفلسطينية قد وجدت حلا نهائيا، وأن فلسطين تتلخص بهذين الثقبين اللذين هما قطاع غزة ومنطقة أريحا، واللذين سيقيم عرفات عليهما دولته. ولأول مرة تكلم المعلقون الفرنسيون عن فلسطين كبلد يوجد، وعن رئيس لهذه الحزينة فلسطين، عرفات، الذي كانت تراقبه مروحية من الجيش الإسرائيلي، والذي خرج لتحيته جمع غفير جاء بالأحرى بدافع الفضول أو ليطلق بعضا من مكبوتاته مع شعور بالتخلص من السحق اليومي للمحتل. كان هذا الجمع يجهل أن خطة الإنهاء عليه قد ذهبت من يد إلى أخرى في اللحظة التي وضع عرفات فيها قدمه على أرض فلسطين، ولم يكن الناس يقدّرون النتائج التي ستتبدى عنها. كانوا يظنون أن فلسطين قد تحررت بالفعل بينما كانت الطريق قد فتحت بما لا يقبل الجدل لتطبيق هذه الخطة التي لم يكن اتفاق أوسلو 1 سوى الوسيلة، فجرى تقديمه بشكل مضحك، وكأنه أفضل ما يمكن الحصول عليه. كان عرفات يعرف أن العودة إلى غزة لا تعني على الإطلاق أن كل شيء قد تم حله، وكان عليه أن يثبت للإسرائيليين أنه رجل الساعة. وليرضيهم، كان عليه أن يعتمد على كل الأوغاد الذين صنعهم تحت سلطته في تونس، وذلك بالعمل على مستويات ثلاثة هي: الإسلاميون والمستعمرات ورجال

الأعمال.

الإسلاميون:

بعد أن جرى تشجيع الفصائل التي تدعى إسلامية من طرف الإسرائيليين في البداية، كانت هذه الفصائل مزروعة جيدا عند رجوع عرفات إلى غزة. وهذا ما كان الإسرائيليون يسعون إليه، أن يكون هناك من يعارض عرفات، من يأخذ سلطة منظمة التحرير، وخاصة من يجعل من حركة التحرر حركة دينية تقاتل باسم الله ولأجل الله، وترمي إلى إقامة دولة إسلامية وليس دولة علمانية تنشأ حسب معايير ديمقراطية، ومن أجل هذا سمح الإسرائيليون ببناء الجوامع في كل مكان والمؤسسات الدينية الأخرى، وغضوا الطرف عن خطب الشيوخ اليومية الذين لم تكن لهم في زمننا أية أهمية، والذين كانوا محط سخريتنا: "تحت اللفة زفة!" كنا نقول عنهم. ولكن أكثر ما في الأمر، عندما ترك الإسرائيليون للسعوديين التحكم بهذه الفصائل بالمال. وهكذا تم تقنين غضب الشعب الفلسطيني، وتم اقتياد الشباب الذين كانوا في وضع يرثى له دون عمل ودون مستقبل. وأكثر الأكثر، تم ما تسعى الدولة العبرية إليه عندما رأت نفسها كدولة دينية بعين الفلسطينيين الذين يطالبون بإقامة دولة مشابهة، دولة إسلامية.

إلا أن إسرائيل التي كانت تعتقد بسيطرتها على هذه الحركة المسماة إسلامية وذلك بمراقبتها عن قرب، وتعتقد بكونها ضالعة بالعمل المشبوه مع السعوديين وذلك بمراقبة مواردها المالية، وبرمي الذين يعبرون عن غضبهم بطرق أخرى غير الصلاة في المعتقلات (كالشيخ ياسين مثلا رئيس حماس)، رأت نفسها متجاوزة بالدعم الشعبي لهذه الفصائل - دعم مترجم ليس فقط بالحلم القديم الذي يقول إن الله سيخلص الناس في يوم قريب قادم من الاحتلال ويفتح لهم الطريق إلى يافا وحيفا واللد والرملة وكل فلسطين، ولكن أيضا بالسلاح وذلك بتحولهم إلى قنابل إنسانية. حقا لقد نجح الإسرائيليون في انتزاع تسييس الناس، وتعميم تصورهم الدائم، والذي هو هوية عرقية ودينية، ولكن أبدا استئصال حلمهم باسترجاع كل فلسطين بعون الله والتضحية بأنفسهم. إذن الرجل الذي عمل الإسرائيليون كل ما في وسعهم للتقليل من نفوذه سيكون هو من يضع حدا لهيمنة حماس والجهاد الإسلامي. هذا هو الوجه الخفي من اتفاق أوسلو 1، ومن أجل هذا، بين مرام أخرى طبعا، تفضل الإسرائيليون بالذهاب إلى العاصمة النرويجية.

ومع ذلك سيلتزم عرفات، الثعلب الفلسطيني، بالذهاب في هذه الطريق، كما هو عهده مع شعاره: "أطلبوا مني كل ما تريدون، ولكن اتركوا لي اختيار الوسائل التي تؤدي إلى ذلك!" عين شخصا أقل ما يمكن القول عنه فاشيا على رأس جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة، محمد دحلان (1994-2002)، هذا الجهاز الذي لم تجر الإشارة إليه في اتفاق أوسلو 1، والذي تمت فبركته قطعة قطعة على يد الموساد والسي آي إيه، وأنفقت عليه ملايين الدولارات وعلى أفراده، من أجل خنق كل مقاومة وإخضاع كل مقاوم، ثم راح يساوم قادة الحركة الإسلامية كما لو أراد أن يقول لهم: قائد جهاز أمني قادر على سحقكم، ولكني شخصيا أفضل حل مشكلتي معكم بشكل مباشر ومسالم، إذن تعاونوا واعتبروا أنفسكم محظوظين!

كان عرفات يلجأ إلى طرقه المعروفة من الجميع، الفساد بالدرجة الأولى ثم الحِذْق عندما يماري في أعين هذه الفصائل القوية إمكانية اقتسام السلطة معه، لكنه لم ينجح، لأن حماس والجهاد الإسلامي يعيان كفصيلين ما لهما من قوة، ويريدان، حتى ولو لم يقولا ذلك صراحةً، كل السلطة. فبدأ قائد جهاز أمنه الدموي برمي المنخرطين الإسلاميين في السجن دون أن يجرؤ مع ذلك إلى الذهاب حتى إشباع رغبات الإسرائيليين: الهجوم عليهم - لهذا أقيم البوليس "الجبار" كما يقضي به اتفاق أوسلو - ومصادرة أسلحتهم. وبعبارة أخرى، تصفية الحركة الإسلامية بالنار والدم. ستكون في الواقع نهاية عرفات لما لفصائل الله هذه من دعم شعبي ونهاية اتفاق أوسلو، مما لا يناسب الإسرائيليين في شيء طالما لم تُحل أية مشكلة في هذا الاتجاه، ولا العرفاتيين، لأنهم وافقوا على كل شيء من أجل أن يكون حكمهم، وخاصة من أجل أن يدوم.

ستستأسد اللجان واللجان التحتية الإسرائيلية-العرفاتية من أجل إيجاد حل، ستصادر أموال هذه الفصائل الإسلامية، ستهاجم نتيجة لذلك اقتصادا يعيل كل الغزيين، وستوجد اقتصادا موازيا، وذلك ببناء الفنادق السياحية والأملاك الخاصة بالمقربين لدى عرفات ومطار من أجل طائرة عرفات الوحيدة وميناء لأسطول عرفات في المستقبل. ستفتح إسرائيل بابها على دفتيه لليد العاملة الرخيصة، وستسمح بإنشاء مصنعا أوحد للمشروبات الغازية في غزة. فلتحي الصناعة العرفاتية! ومع ذلك، طالما أن الله إلى جانب الشعب، لم يتخل الشعب عن شيء، وازداد الحقد على عرفات والإسرائيليين. فتغير التكتيك: انتهى عهد المن والسلوى، توقف بناء الفنادق والميناء، وتم هدم المطار فيما بعد ومعه طائرة عرفات الوحيدة. لم تعد هناك بحبوحة اقتصادية، ومن جديد، عادت مخيمات اللاجئين ترزح تحت كاهل البؤس، وتضاعفت معاناة السكان، كما وعادت سياسة القمع بقيادة قائد جهاز الأمن الفاشي كما لم تكن من قبل. لكن توقف كل شيء فجأة عندما هوجمت السجون من طرف رجال مسلحين، وحرر السجناء بعد مقتل عدد من أفراد البوليس الفلسطيني "الجبار". لو حقق عرفات شيئا ما في ميادين أخرى غير ميدان الأمن لشن حربا أهلية ولكسبها، لكن كل شيء كان راكدا، لم يكن هناك انسحاب فعلي للجيش الإسرائيلي، ولا أي تقدم يذكر في تطبيق اتفاق أوسلو. لم يكن باستطاعته تصفية الحركة الإسلامية وادعاء كونه محرر فلسطين. فوجد الإسرائيليون الذين كانوا يريدون التخلص من الإسلاميين مع احتفاظهم بكل امتيازاتهم على الأراضي المحتلة، وجدوا أنفسهم مضطرين لاستعادة الوضع: اتفاق أوسلو يعطيهم الحق، بتغيير الطريقة طبعا، بما أنهم لم يتوصلوا بعد إلى تصفية القضية الفلسطينية، وللمجيء إلى نجدة رجلهم، ثعلب الثعالب، إذ لم يزل له دور يلعبه.

لا شيء، أبدا لا شيء كان يرغم الإسرائيليين على تحرير الشيخ ياسين، قالوا في شيخوخته حجة، وفي مقامه كرجل دين، وفي صحته، ولكن على ما يبدو بدا الشيخ ياسين يتمتع بصحة جيدة، وقدم نفسه كرجل سياسي أولا وقبل كل شيء.

في الواقع، دشن تحرير الشيخ ياسين بداية التصعيد الذي نعيشه حاليا: كان الإسرائيليون يعرفون جيدا أن المنحى مع قائد متعنت كالشيخ ياسين سيكون منحى تشدد الحركة الإسلامية. وهم بهذا يحققون غرضين، الضغط على عرفات ليدير الأمر الواقع - تجميد اتفاق أوسلو، مماطلة، مناورة، احتيال، تمسكن، تشعوذ... الخ -، وجعل الوضع السياسي الاقتصادي الاجتماعي وضعا معقدا من المستحيل فكفكته، وما تمني عرفات الذهاب والشيخ ياسين للصلاة يوما في المسجد الأقصى سوى محض مكر ورياء. كان عرفات يعتقد جازما أن الحركة الإسلامية ستدمر بدبابات الجيش الإسرائيلي، ولكنه كعادته، أبدى من نفسه الوداعة، والانتباه الأفضل من كل الناس، ليقول براءته، ويعلق وطنيته في ساح المزايدة على الجميع. إلا أن انطلاق الانتفاضة الثانية قد دفع الجميع بقوة إلى ما لم يكن متوقعا، وعجل مجيء شارون إلى الحكم من الخطة الرامية إلى وضع حد لكل حمية شعبية، ما تبقى من حمية شعبية، كي يجري القبول بالحد الأدنى، الحد الأدنى للأدنى.

المستعمرات:

إذا لم يكن للمستعمرين سوى حليف واحد، فسيكون عرفات، لأنه منذ عودته إلى فلسطين، تضاعف عدد المستعمرات إن لم يكن تثالث. لعب لعبة العاجز أمام هذه الظاهرة، واكتفى بإدانتها شفويا. تواصل مشروع الاستيطان رغم كل شيء، واستغله عرفات ليبرر الحد الأدنى المقبول. لكن الطغمة الحاكمة في إسرائيل هي التي تنتفع منها أكبر انتفاع، والتي، كي تذهب بمراميها السياسية الخسيسة إلى أقصاها، مرامي الهيمنة على الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، تُحرك أناسا جعلوا من اللوائح التلمودية استبدادا للعقول على نحو غير سوي. وإذا أصبحت المخالطة جهنمية بين المستعمرين المستوطنين وجيرانهم الفلسطينيين، فلأن الساسة في المعسكرين يسعون إلى تفاقم الوضع في هذا السجل أيضا من أجل ألا يُسحب شيء من اتفاق أوسلو المدعو 1، وأن يكون الرجوع إلى الأمر الواقع الذي على عرفات إدارته بأي حال من الأحوال.

وزيران من وزرائه المقبولين من طرف الإسرائيليين والموافق عليهما من طرف الموساد سيأخذان على عاتقهما هذه المسألة التي هي مع ذلك من غير مخرج. ولكن بغياب حقيبة حقيقية يجدر اللعب بالمُدة، والعمل على اعتقاد الفلسطينيين أن عرفات يعمل كل ما في وسعه لدى المفاوض الإسرائيلي ليخفف من عذاباتهم. نبيل شعث من ناحية - فاسد منذ مولده، وزير "التعاون الدولي" (لقب اختير لقول "أشغال خارجية" دون المخاطرة بالتعدي على بنود اتفاق أوسلو مثلما سنرى) -، وصائب عريقات من ناحية ثانية - انتهازي مخضرم وببغاء لعرفات، وزير مكلف بالمفاوضات - سينشغلان بالمستوطنين.

الأول لأن اتفاق أوسلو يمنعه من كل شيء: "تطبيقا لإعلان المبادئ، لن تكون للسلطة الفلسطينية سلطات في ميدان العلاقات الخارجية: إقامة سفارات في الخارج، قنصليات أو أي نوع من البعثات أو المناصب في الخارج، إقامة بعثات كهذه في قطاع غزة أو منطقة أريحا، تعيين أو اعتماد مِلاك دبلوماسي أو قنصلي، قيام بمهام دبلوماسية" بند VI فقرة 2 أ. إذن وزير أشغال خارجية بدون أشغال خارجية لم أر واحدا في حياتي! ليس له في إطار وظائفه الحق في معالجة أي أمر كان إلا مع الإسرائيليين، وتثبت ذلك اتصالاته بخصوص المستعمرات.

الثاني لأن التفاوض مرتبط بوظيفته، مفاوض لعرفات ومفاوض ليس كالآخرين، بما أن "والده" المالي يملي عليه ما يجب قوله بالحرف الواحد، وهو يقوله بإنجليزية معتبرا نفسه شكسبير زمانه! والرئيس التاريخي، والرئيس التاريخي! يفاوض الإسرائيليين بلعق نعالهم ليخفف قليلا من تشددهم، لكنه يتركهم بوجه عابس دون أن يوفرهم نقدا وتوبيخا. هذا ما يدعى بالتعهر في السياسة، والذي يمارسه القادة الفلسطينيون دون حياء مع زملائهم الإسرائيليين. يتكلم عريقات عن المستوطنين للصحفيين - دائما بلغة شكسبير من فضلكم - ولا يسهو عن ترداد "الرئيس التاريخي" عند كل جملة إن لم يكن عند كل كلمة، كما لو كان عرفات رئيس المستوطنين. وهو رئيسهم من الناحية الأخلاقية، لأن لا الفهلوي شعث ولا الببغاء النموذج ينجح في كبح برنامج التوطين. وفي الأخير، ككل متحضر من ترمسعيا، تلك القرية المنسية من عندنا، يأتي شعث عابس الوجه من وراء ميكروفون معد لتلك المناسبة ليدلي بتصريحه كزميله الببغاء بلغة شكسبير. وعلى طريقة شيخ إنجليزي بطربوش أبيض، يتلفظ بكلامه المتفاصح ظنا منه أن الصحفيين يسمعون له أو يهتمون بما يقول، عندما يكون كل ما يحكيه عن أوامر أعطاها لزميله الإسرائيلي ليس إلا عذرا كاذبا. أمام الإهانة اليومية التي يوجهها المفاوض الإسرائيلي، وخاصة منذ ذلك اليوم التراجيدي "للنييت" بخصوص "المستزرعات" - لا يقولون مستعمرات في اتفاق أوسلو ولا مستوطنات - مصطلح أقل ارتباكا لمتحضري ترمسعيا الذين هم زبانية عرفات - يقبلون بوجود المستعمرات كقطع غيار: ترحّلون عددا معينا وبالمقابل نتخلى لكم عن لست أدري كم كيلومتر من الحدود! يا للعار! سيجري تطوير هذه الفكرة في مفاوضات جنيف غير الرسمية بين الجندي الشجاع الباسل الأشقر ذي العينين الخضراوين واللدغة الباريسية غو غو غو... ياسر عبد ربه، كما سنرى ذلك عند معالجتنا لهذا الفصل.

إذن، فيما يخص هذا المصراع، سيسير تزايد خطورة الوضع العام معا وتفاقمه في الأراضي المحتلة، إلا أن عرفات سيحاول إنقاذ على الأقل الوضع الاقتصادي. إنه الباب الوحيد الذي يتركه له اتفاق أوسلو مفتوحا، ليس دون قصد سيء من طرف الإسرائيليين طبعا.

رجال الأعمال:

الكل يعلم أن اقتصاد الأراضي المحتلة يتوقف تماما على الإقتصاد الإسرائيلي، وأن هناك سيطرة كلية لإسرائيل في مادة التجارة و"التطور". تتحكم إسرائيل في النقد، وفي سوق العمل، وفي الماء، وفي الكهرباء، وفي انتقال البضائع والأشخاص. وتمثل الأراضي المحتلة كنزا لا يقدر بثمن لاقتصاد بلد نجمة داوود، وهذا في الاتجاهين، بصفتها منطقة محتلة تستهلك، وبكونها توابع للمصانع الإسرائيلية تنتج. وبالتالي هناك أرباح دوما لٌلإسرائيليين الذين يصرّفون بضائعهم المصنوعة على أرضهم والذين ينتجون بضائع على الأرض الفلسطينية مع يد عاملة رخيصة، هذه البضائع التي ستباع في الأراضي المحتلة مثلما ستباع في إسرائيل بفائض قيمة مرتفع كمكافأة. وبالطبع ترك الإسرائيليون عرفات يعمل اقتصاديا ما يريد عمله، لأن كل خطوة لدعم الاقتصاد في الأراضي المحتلة هي في الواقع في صالح إسرائيل. لم تنطلق الانتفاضة الثانية، ولم يأت شارون إلى الحكم بعد. تراخى الطوق المطوق لسكان الأراضي المحتلة عن أعناقهم، ولم يستعمل المستعمرون الإسرائيليون يأسهم بعد كوسيلة قمع ضد هؤلاء السكان أنفسهم. سيُرفع الحصار من وقت إلى آخر في المستقبل من أجل هدف تجاري لا إنساني: تشجيع اقتصاد الأراضي المحتلة قليلا من أجل إنعاش الإقتصاد الإسرائيلي الذي كانت لحرب الحجارة عليه نتائج كارثية. ومن يقول ازدهارا يقول تمويلا جيدا للجيش، إنهم الفلسطينيون الذين يمولون بشكل من الأشكال الجيش الذي يقمعهم، مع رضاء عرفات بالطبع.

كما يشترط إذن اتفاق أوسلو 1 بند VI، لم يكن للعرفاتيين أية صعوبة يواجهونها من أجل الذهاب إلى التوقيع على اتفاقات اقتصادية ومساعدات ومن أجل تطبيق خطط التطوير المناطقية. وكما نرى، هناك طموح بخصوص كل بلدان المنطقة يتجاوز الحدود الفلسطينية. هذه اللُّجة الاقتصادية التي تحلم بها إسرائيل دون أن تتخلى مع ذلك عن سيطرتها على الأراضي المحتلة، وهذا بفضل عرفات. عرفات الذي هو هنا لخدمة اقتصادها، الذي هو هنا لخدمة حكمها. حتى إنه هنا للذهاب إلى أبعد مما يتمنى الإسرائيليون الحصول عليه، عندما يحمل على عاتقه الرواتب وكل المسئوليات الأخرى والالتزامات العائدة إلى قبل النقل (نقل السلطات... إنهم دوما هنا ولكن بالاختصار...) مثلما يمكننا أن نقرأ تحت الفقرة أ 1 من البند XXII: "نقل كل السلطات والمسئوليات إلى السلطة الفلسطينية المشترط عليه في الملحق II، يتضمن كل الحقوق والمسئوليات والالتزامات المرتبطة بأفعال أو إسقاطات حصلت قبل النقل. تتوقف إسرائيل عن حمل كل مسئولية مالية بخصوص هذه الأفعال المذكورة والإسقاطات وتتحمل السلطة الفلسطينية كل المسئولية المالية لهذه الحالات ولعملها العائد عليها."

وأكثر من هذا، سيذهب عرفات حتى دفع كل مطالبة قضائية تقدم لإسرائيل، فقرة ب من البند نفسه، ومع ذلك على البلد الذي يحتل بلدا آخر أن يتحمل كل مسئولية مالية تعود عليه حتى بعد انسحابه من هذا البلد، وحالة ألمانيا النازية بهذا الخصوص مثالا دامغا. لم تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة، ومع ذلك عرفات من سيدفع الفواتير الإسرائيلية، حتى إنه جاهز للذهاب إلى المحاكم في مكانها، فقرة ج من البند نفسه. الافتتان الإسرائيلي كامل: بخصوص الأرض إسرائيل لا تعيد شيئا، وبخصوص المال تأخذ كل شيء: كم هي الحياة جميلة! ومع عرفات، كم هو العالم جميل!

ستدفع بلدان الخليج والسعودية حصتها وكذلك البلدان المانحة الأوروبية، ليس بالقدر الذي يأمل عرفات، ومع ذلك. يبقى له رجال الأعمال ابتداء بالفلسطينيين الذين يقيمون في الأردن وكل الاقتصاد الأردني بين أيديهم. خطوة هامة ترمي إلى هيمنة إسرائيل الاقتصادية مرورا بعرفات خارج حدودها. لقد كُلف أسعد عبد الرحمن، صديق من أصدقاء الطفولة، وأحد وزراء عرفات، بجمع كل القبيلة المالية في عمان بحضور الرجل ذي الكوفية الأبدية. كانت المهمة صعبة، فقد أوجب رجال الأعمال هؤلاء ضمانات وإلا ضاعت أموالهم، وإسرائيل هي التي أعطتهم أفضل الضمانات، وذلك بإشراكهم مباشرة في وزارة الاقتصاد والمالية. كان عرفات راضيا تمام الرضى، فقد أتم مهمته "التاريخية" بتطبيقه حرفيا البنود المالية لاتفاق أوسلو. وتمت، بعد ذلك، لقاءات أخرى بين رجال أعمال فلسطينيين وإسرائيليين. أنسى الناس الازدهار في الأراضي المحتلة، مؤقتا على الأقل، المأزق السياسي الذي توجد فيه المفاوضات المتعلقة بتطبيق البنود حول الانسحاب العسكري. وأراد عرفات أن يلعب لعبة الوطني عندما أعدم رميا بالرصاص، كما هي الحال في كل نظام بربري، بعض المساكين بتهمة التجسس لصالح "العدو". ولكن أي عدو؟ الإسرائيليون؟ وأولئك الذين يتعهرون ليلا نهارا على أحذيتهم، أليسوا هم الجواسيس الحقيقيين؟ لماذا لا يعدمهم؟ يعمل من الجواسيس الحقيقيين أبطالا ومن المتسكعين الذين لا قانون لهم ولا مأوى جواسيس ويعدمهم ليقول للناس: أنا الوطني الوحيد الذي عليكم أن تضعوا فيه كل ثقتكم. ولكن في ظهورهم يرتكب أشياء أسوأ من كل ما يمكن كل الجواسيس ارتكابه معا. هذا أيضا جزء مما أدعوه التعهر السياسي، والذي آخر أفعاله بنّاء: يصف قريع بالجرائم مذابح جيش شارون الذي ارتكبها ضد مدنيي رفح، وفي الغد يمتدح هذا الشارون نفسه محييا شجاعته للانسحاب من بعض المستعمرات التي لا تشكل في الواقع أي عائق أمام تنفيذ خطته الجهنمية للانفصال. وعلى الجميع أن يعلم أن جواسيس هذا القريع نفسه على صدر "اللجنة الأمريكية الإسرائيلية"، وبعبارة أخرى "لجنة السي آي إيه والموساد والمخابرات" المكلفة بتحييد كل "المنظمات الإرهابية"، هي التي تنذر طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية محددة لها الرجال السياسيين الذين عليها قتلهم بصواريخها - ومعهم تلاميذ المدارس العابرين في شوارع غزة. تعهر سياسي أيضا عندما تنعت المدعوة شهيد، ممثلة عرفات في باريس (وموسيو عرفات، وموسيو عرفات!) التي يقبّلها شيراك من خديها المنتفختين، عندما تنعت هذه الآنسة الجالسة على مقعدها مقعد "الدبلوماسية المجربة حتى العمق" جلوسا مريحا منذ أربعمائة عاما، عندما تنعت المحتل الإسرائيلي على الشاشة الصغيرة بشتى النعوت، وخارج الكاميرا تصعد في سيارة سفير إسرائيل المصفحة لتذهب معه لست أدري إلى أين. وأسوأ من هذا بكثير: عندما يدفع السفير الإسرائيلي راتبها لما تفرغ صناديق عرفات أو هو يفرغها.

وبالفعل، بدأت تلحق بعرفات المساوئ الاقتصادية عندما تبين أن إسرائيل وحدها المنتفعة من "الانفتاح" الاقتصادي. غدت الحياة أكثر فأكثر غلاء، ولم تعد الرواتب تكفي، لم تكن أبدا كافية لأجل العيش، ولأول مرة تُشن الإضرابات من أجل الخبز وليس من أجل طرد المحتل. ولكي يوقف الحركة، ذهب عرفات بنفسه بصحبة قائد المنطقة. هذا القائد، ككل الآخرين، لم يمكنه أن يرى نفسه قائدا لأجل القتل والقمع إلا بعد أن عُرض اسمه على الموساد، وبعد أن وافق الموساد عليه. عميل إسرائيلي قديم؟ حتما. وإضافة إلى ذلك يقيم العرفاتيون المحاكم ليحاكموا الجواسيس!

- ما هي طلباتكم؟ سأل عرفات المضربين.

- زيادة الرواتب، أجابوا.

أشار عرفات بإصبع الاحتقار إلى قائده.

- هذا الحمار بن الحمار هل تعرفون كم مكسبه الشهري؟ سأل من جديد.

- لا.

- قل لهم، أمر قائده وهو يصفعه.

- ثلاثمائة دولار، همهم القائد.

لم يقل كم يسرق. فقال عرفات:

- هذا القائد لمنطقة كبيرة بهذا القدر مكسبه الشهري ثلاثمائة دولار وأنتم ألف، اعتبروا أنفسكم محظوظين.

ووضع حدا للإضراب. لكن الانتفاضة الثانية جرفت معها كل شيء.

يجب ملاحظة أن اتفاقا آخر اسمه أوسلو 2 قد توصل الطرفان إليه أثناء ذلك في طابا، وتم التوقيع عليه في كعبة العرفاتيين التي هي واشنطن في 28 سبتمبر 1995 والهدف توسيع الحكم الذاتي ليشمل كل الأراضي المحتلة، ولكنه يقضي بإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي بضعة أمتار فقط حتى أبواب المدن. وكان ذلك شكلا من الأشكال التي تسمح بسير انتخابات مجلس تشريعي وتنفيذي مع نتائج، كما سبق لي وقلت، معروفة سلفا، ولكن خاصة انتخاب رئيس بالتخفيض، "رئيس منتخب ديمقراطيا": حجة تدعو إلى الضحك يقدمها الغربيون ليدافعوا عن "رجلهم" الذي تخلى عن كل شيء، كل شيء على الإطلاق، للإسرائيليين - من هنا جاء هذا الحب - وليخفوا ممارسة أحرى بواحد مثل موسوليني أو واحد مثل مبارك اللذين هما أيضا انتُخبوا "ديمقراطيا". أي واحد بإمكانه أن ينتخب "ديمقراطيا" إذا كان المرشح الأوحد حتى بصوت وحيد. وعلى عكس ما نُص عليه في اتفاق أوسلو 1، صادر عرفات من مجلسه المنتخب بالتخفيض، وما أسهل ما صادر، كل السلطة التنفيذية، وكهتلر جديد، وضع يده على الأمن والمالية.

د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الإتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 33-44.

ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك

www.parisjerusalem.net

Read more…
اخلعوا وجوهكماخلعوا رؤوسكم...

كيف ننظر إلى آخر تصريحات ومواقف البيت الأبيض من القضية المحور القضية الفلسطينية؟ كيف نتعامل مع فريق من سياسيين ومنظرين يقولون عن أنفسهم أسياد العالم؟ كيف نحلل خطابهم السياسي من خلال العلاقات التي تربطهم بالعالم؟ هذه الأسئلة يمكن طرحها أيضا على مستوى آخر يخص كل الأشكال اللغوية تحت شرط ربطها بقيم الواقع لا كما يقول جاكوبسون، فالواقع جوهر لغوي، وشأن ألسني. لهذا عندما يقول أوباما بأنه أخطأ في الحكم على قدرة الفلسطينيين والإسرائيليين في التوصل إلى سلام ما بينهم، ومنذ يومين في القاهرة كان واثقا من قدرة كل الأطراف على تحقيق ذلك، اللغة هنا هي الحاكم وليس حاكم أميركا، واللغة هنا هي الانعكاس للشرط السياسي، والشرط السياسي في نظام الإشارات هو الشيء الأساسي. وما تشي به اللغة المتقلبة بين ليلة وضحاها أخطر بكثير من الفعل الذي تعبر عنه، فهي تضعنا في قلب صورة حسية لشيزوفرينيا الخطاب، لفُصام لغوي ليس من الضرورة أن يكون فُصاما لمريض، ولكن في أبعاده السياسية نميز الانطواء على النفس، وهذه هي الحال مع الأمريكان، والتحليق في عالم الخيال والوهم وعدم الاتساق بين المزاج والفكر، وهذه هي حال الإسرائيليين، والبلاهة المبكرة البلاهة الخُلقية والخِلقية، وهذه هي حال السعوديين والأردنيين والباقين من الحكام العرب. ولشيزوفرينيا الخطاب دلالات في غاية الخطورة عندما تذهب كلينتون مثلا إلى حد التهديد بقطع المساعدات الأمريكية عن الفلسطينيين، فهم المحتلون لإسرائيل، وهم المعتدون، أو عندما يصرح نتنياهو أنه لن ولن ولن ولن، فهو صاحب الحق في كل شيء، أو عندما يردد عبد الله بن الحسين ما ليس هو نفسه به مقتنعا عن الشراكة والمنافسة والتساوي بين الحظوظ، فهو يطل برأسه علينا من كوكب آخر، أو عندما يرفض عبد الله بن عبد العزيز ما تحاول أمريكا إملاءه عليه، وفي الوقت نفسه تصل البضائع الإسرائيلية إلى أسواق مكة والمدينة والطائف من دون جمارك، فهو يتقن دور النعامة تمام الإتقان خطة أفنان القاسم في أنظمة الإشارات لها لغة خاصة بها هذا صحيح ولكنها تشترك مع غيرها من لغات وتؤثر فيها لتصل إلى معاني عديدة يمكن تنفيذها لتعطي على الأرض:1) سياسة واضحة للأمريكان ليست متقلبة أو متوقفة على الظرف ومشروطة بحقها وبالحق العام.2) سياسة عقلانية للإسرائيليين ليست متعنتة أو متمنعة بظرف مؤقت اليوم هو في صالحها وغدا في طالحها وإن طال الزمان.3) سياسة واقعية للأردنيين والسعوديين (هم من نريد لتطبيق المرحلة الأولى من الإتحاد المشرقي) ليست متقوقعة أو متفرجة ورهينة بظرف هو غير ظرفها وشرط هو غير شرطها.خطة أفنان القاسم هي خطة للخطاب السالم والفعل السالم، وهي خطة قادرة على جمع كل الأطراف من أجل تحقيق السلام، وإنهاء مشاكل فلسطين الفعلية، ومشاكل الأردن الفعلية، ومشاكل السعودية الفعلية، ومشاكل إسرائيل الفعلية، ومشاكل أمريكا الفعلية، وأبسط ما فيها مد يد العون للجميع من أجل خلع وجوههم وإن أمكن رؤوسهم: الطريقة الوحيدة لوضع حد لشيزوفرينيا الخطاب.
Read more…

قوى العقل في إسرائيل

والعالم العربي

د. أفنان القاسم / باريس

كيف نفهم قوى العقل في العالم العربي؟ هل نفهمها على أساس انتمائها لديكارت أم على أساس كونها ممارسة وفعلا وتأثيرا في الحدث؟ نظريا آه ما أشطرها وعمليا لا شيء أو أنها رفل من أرفال القوى الغيبية، فمن يترك القوى الظلامية تجول وتصول بلا رادع هو بشكل من الأشكال ذيل ثوب تجره من ورائها، ومن يرى الحلول من زاوية أن لا حل هناك تحت ادعاء الموضوعية التاريخية أو التاريخية الواقعية يسعى بإرادته إلى تكريس تلك القوى النقيضة القوى الغيبية، ويعمل على إدخال العقل معها في قوقم الميتافيزيقيا، فتصبح الأنظمة العربية أنظمة لا يمكن المساس بها، والاقتصاد العربي قيمة فائضة من قيم الرأسمال الغربي، وإسرائيل نجمة من ملايين النجمات التي مصيرها إلى الزوال مصير غيرها كما يقول علماء الفلك، متى وكيف؟ حتى بعد مليون سنة سيكون حتما زوالها، تجيب قوى العقل العربية. أنا لا أنتمي إلى هذه القوى، ولا أنتمي إلى هذا العقل، أنا لا أنتمي إلى دغل العلم الغيبي، لأني أرى في الواقع رؤية المتبصر لا الضرير، وأجد للصراع السياسي مع إسرائيل أفضل الحلول لا أسوأها، أرى أن إسرائيل اليوم تفرض نفسها عليّ بوجودها وغدا فأتعامل مع فرضها لنفسها عليّ اليوم وغدا أما بعد غد فهذا ليس من شأني، هنا يمكنني القول إن هذا لمن شأن الواقع التاريخي الآتي لأن حتى إسرائيل نفسها لا تعرف ما سيكون مصيرها مثلما لا أحد يعرف ما سيكون مصيره. اليوم تفرض كل الشروط الموضوعية على فلسطين وإسرائيل والعالم العربي التعامل مع ظروف الجميع الموضوعية بما تمليه هذه الظروف على الجميع، وعند مقاربة العقل لهذه الظروف يرى أن إسرائيل تقضي على غيرها وتقضي على نفسها، إسرائيل اليوم هي شمشون عصرنا شاءت ذلك أم أبت، القوة التي لها ليست الحل، والدسيسة ليست الطريقة، وسياسة الخطط والمخططات سياسة الضعيف والخرع والفاقد للبوصلة، لقد فَهِمَتْ هذا من عندهم بعض قوى العقل أمثال أبراهام بورغ وإيلان بابيه ويوسي سريد وغيرهم، ولا أحد من عندنا -نسيبة وعبد ربه وعباس يمثلون في التحليل السياسي والألسني قوى العقل الرثة وأعلام براز الوعي ومطايا التسليم والاستسلام- فطالبوا بإسرائيل جديدة لا بإسرائيل توراتية غيبية وغبية غيبت الإنسان إنسانهم وإنساننا، وجعلت منها مختبرا تجريبيا لهتلرية استيطانية تتعدى المستوطنات في الأراضي الفلسطينية إلى استيطان الإسرائيلي نفسه لنفسه وهذه أعظم كارثة بأنفسهم من كارثتنا بهم .


لنأخذ نقطة نقطة من خطتي للسلام ولنر كيف تصل ليس إلى حلول فهي جاءت من أجل الحلول ولكن إلى الحيلولة دون كوارث ستلحق بإسرائيل أول ما تلحق إذا لم تعمل بها وليس بفلسطين فقط ودول المنطقة:

عدم فتح الحدود على بعضها كالاتحاد الأوروبي حدود 4 حزيران 67 أو حدود اليوم سيؤدي ذلك إلى انكفاء على الذات وتراجع قومي إن لم يكن تقهقرا جوهريا في بنية المجتمع والزمن اليوم وخاصة غدا زمن إزالة الحدود نهائيا فهو شرط الحياة لدول تريد أن تحيا -غربا وشرقا وخاصة شرقا- لمواجهة الانحسار والجمود والركود، لمواجهة الانهيار كما حصل في الغرب في الشهور القريبة الماضية، وعلى الخصوص إسرائيل التي لا تنتمي بخصوصياتها إلى هذا الشرق، وستتحول هذه الخصوصيات في حال عدم فتح الحدود بل وإزالتها نهائيا إلى كارثة حقيقية لها.

عدم تعريب القدس الشرقية -المقصود هنا تهويدها- وعدم الاعتراف بها عاصمة لفلسطين -المقصود هنا القدس الموحدة- سيؤديان إلى انهيار لاهوتي للمدينة لأن وجودها يعتمد أول ما يعتمد على التوازن بين السلطات الدينية الثلاث والوجود السياسي بالتالي على سلطات ثلاثية فلسطينية إسرائيلية ودولية، الدولية هي أقرب إلى السلطة المعنوية، وإذا ما تم تهويد كل القدس الشرقية أقول كلها ما عدا الأماكن الإسلامية المقدسة، القدس الشرقية تبقى قدسا شرقية للفلسطينيين، وبقاء هذه الأماكن المقدسة تحت السلطة الدينية الفلسطينية يبقى إلى الأبد تهديدا لعاصمة إسرائيل الأبدية كما يشاع، واشتعال لهب انتفاضة فلسطينية عربية إسلامية هذه المرة حتى من متر مربع لم يتم تهويده ممكن في أية لحظة، أضف إلى ذلك أن الفاتيكان سوف يفرض حضوره الديني والسياسي، وتكون حربا صليبية ولكن بشكل آخر وبتحالفات أخرى يكون فيها المسيحيون والمسلمون في خندق واحد معا ضد الإسرائيليين -لا أريد أن أقول ضد اليهود لأن اليهود في العالم لن يقفوا إلى جانب من صهينوا دينهم وهم على كل حال ليسوا كلهم متدينين-.

عدم عودة لاجئي 48 إلى ديارهم لن يحل المسألة الفلسطينية-الإسرائيلية إلى الأبد وكل وجود إسرائيل يتوقف على هذا الحق الجوهري والحياتي للشعب الفلسطيني، وخطتي للسلام قلبت هذا الأمر على قفاه لتصل إلى حل يرضي الطرفين، فقالت بحق العودة دون حق المواطنة تحت شروط التعويض المغري، وضمنيا هذا الحق كما هو عليه لسائر شعوب الاتحاد الأوروبي مرتبط بالعمل مثل كل من يعمل في إسرائيل من كل الجنسيات. عدم الإقرار بحق العودة يعني عدم الإقرار بحق إسرائيل في الوجود لأن وجودها متوقف على عودة اللاجئين وليس العكس كما يدعي المتطرفون وشاربو ويسكي التوراة ومنظرو الأضرحة الصهيونية.

عدم حل المستوطنات والمستوطنين وحقهم اللاهوتي المجنون على أساس الحل الذي قدمته لعودة لاجئي 48 بمعنى أن يكون لهم حق الإقامة تحت السلطة الفلسطينية دون حق المواطنة لن يصل بالجميع فلسطينيين وإسرائيليين إلى قناعة سياسية -لأن القناعة السياسية شيء والقناعة الميثية شيء آخر وهي الأساسي في السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي- أن كل فلسطين التاريخية لكل الإسرائيليين ولكل الفلسطينيين. دون الاعتراف بحق الكل على الكل لن يكون اعتراف بإسرائيل. تبادل الأراضي لعبة سياسية سافلة لن تحل هذه المسألة أبدا.

والضامن لهذه الحلول كلها والدينمو والامتداد الأفقي على كل المستويات الاقتصادية أولها هو الاتحاد المشرقي، به تنهض جميع شعوب المنطقة وتدخل في المستقبل، تصنع مستقبلها، فلا مستقبل لإسرائيل دونها، بقوتها وعلمها وتطورها وكله لا مستقبل لها دون الرفع من شأن شعوب المنطقة وليس إذلالها، ودون العمل معها عمل الفرنسيين والألمان بعد أن رموا بإرث الحرب من ورائهم، وحققوا ما لا يمكن للواحد أو الآخر تحقيقه. في الاتحاد المشرقي التكافلات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية للجميع وخاصة الاقتصادية وكل المؤشرات الموضوعية تشير إلى الضعف التدريجي للإمبراطورية الأميركية، حليفة كهذه يجب التفكير جديا بالاستقلال عنها، والترقيع السياسي التصفوي للقضية الفلسطينية عن طريق حل يرمي إلى استحداث دولة فلسطينية في صحراء سيناء هو جزء أيضا من لعبة سياسية سافلة، لأننا بإمكاننا في ظروف الاتحاد المشرقي الطبيعية أن نعمل من غزة سنغافورة جديدة تعود بالفائدة على الجميع.

www.parisjerusalem.net

Read more…
يا عبد الله الثاني هل أنت مقتنع بما تقول؟

في حوار له على هامش مؤتمر دافوس، صرح ملك الأردن عبد الله بن الحسين أن الحل هو حل الدولتين أو الدولة الواحدة، وهو يرمي هنا إلى الضغط على إسرائيل التي ترى في حل الدولة الواحدة تهديدا لهويتها ووجودها، بينما الضغط على حكام تل أبيب كان يمكن له أن يكون حاسما لو لوح عبد الله الثاني بمشروع الإتحاد المشرقي الذي اقترحته عليه، لأن الاتحاد قوة للعرب، وعن طريقه فقط وليس عن طريق أي شيء آخر (كقناعة إدارة أوباما بحل الدولتين مثلما يحاول البعض عبثا إقناعنا) يمكن تحقيق هذا الحل، إنه دينمو التأسيس، وضمان للهويات كلها والكيانات، وما عدا ذلك كل شيء وهم بوهم وخيال خيمري وفكرة كاذبة، وملك الأردن يعرف تمام المعرفة أن حل الدولتين في الظرف الراهن لا يمكن أن يتحقق إلا في رؤوس الذين ما زالوا يعولون على ذلك.وبعد سنوات من الترداد والتردد المملين واللف والدوران المتعبين وإدارة الأزمة بل الأزمات التي عاثت بالأردن ولم تزل، أتساءل إذا ما كان عبد الله الثاني مقتنعا بما يقول أم أنه يراهن على معجزة تأتي من البيت الأبيض، وحتى هذه المعجزة التي هي سياسية هو لا يؤمن بها، فيعول على معجزة الخطاب، وهذا ما حصل في دافوس. ولكن لمعجزة الخطاب اليوم أثرا محدودا وغير فاعل لأنها للخصم ليست بذي بال بل هي تصب في صالحه. لماذا إذن لم يهدد الإسرائيليين والأميركيين بخطتي للسلام الطريقة الوحيدة التي يجبرهم فيها على المجيء إلى طاولة المفاوضات وبشروط واضحة للتفاوض فكلا الطرفين تجمعهما مصالح واحدة ولا علاقة البتة بلوبي أو بتعنت ولا بصلافة أو بصفاقة؟ لماذا لم يطرح فكرة الإتحاد المشرقي الذي هو في صلب الخطة شرطا للتوصل إلى حل؟ لماذا لم يحطم مئات الآلاف من الأواني المستطرقة لخطاب قديم اهترأ وتعفن لكثرة ما اجتر؟ لماذا على الأقل لم يشر إلى خطتي كما أشار إليها ثاباتيرو -الذي قرأها- حين لقائه به عندما ربط حل الدولتين بكل دول المنطقة؟ .الحقيقة أن ملك الأردن لم يتخلص من تركة أبيه في سياسته الخارجية وفي سياسته الداخلية، ولم يثبت جدارته كملك جديد برؤية جديدة وكملك حر ببطانة حرة، لقد قيد نفسه بكل ما أملته على الأردن وشعب الأردن اتفاقية وادي عربة، وقبل ذلك بالتبعية الغير المشروطة للسياسة الأميركية، لهذا بقيت للملك الجديد رؤية الملك القديم، وكأن الحسين بن طلال، وهو في جَدَثِهِ، هو الحاكم الحقيقي. ولقد قيد نفسه بكل ما نزل بالأردن إلى الحضيض الأسفل، بلصوصه من أبناء العائلات والعشائر، الذين كنت أدعوهم على مسمع الملك حسين برجال البساط لا البلاط، فبالله عليك أن تقول لي هذا الرفاعي الذي هو رئيس وزراء الأردن ما الذي أهله لهذا المنصب غير قرابته بواحد آخر بعيد دمر الأردن في عهده اسمه سمير الرفاعي؟ حتى ولو كان من خريج هارفارد وأوكسفورد والسوربون معا مجرد أن ينتسب إلى هذه العائلة شيء يجعلنا نشك في أمره ولا نثق بقدراته، وقس على هذا أبناء أبي الراغب وأبناء المصري وأبناء المجالي وأبناء التلهوني وأبناء سيدي المجترحي فكلهم أمخاخ وعباقرة، كل هؤلاء هم هنا ليس من أجل "الخصخصة"، كلمة عزيزة على عبد الله الثاني، ولكن الخسخسة في السياسة، والقصقصة في الإقتصاد، لهذا السبب الأردن من أفقر بلدان العالم، وعشر سنوات الحكم الأخيرة من أسوأ سني هذا البلد الذي لست أدري كيف لم يزل صامدا وواقفا على قدميه لولا صلابة بنيه وتضحيتهم.وقس على ذلك الادعاء الجريء الآخر، الأردن الديمقراطي! الأردن الذي تحكمه القرارات المؤقتة أو أنصاف القرارات لن يمكنه أبدا أن يكون ديمقراطيا، الأردن الذي صحافته تقيء كل يوم عشرات المقالات التي تمتدح أو التي لا تمتدح ولكن من جوه الامتداح لن يمكنه أبدا أن يكون ديمقراطيا، الأردن الذي ينتظر الموقف الرسمي من خطتي لتكتب صحافته عنها ولا يجرؤ أحد على قول كلمة فيها سلبا أم إيجابا لن يمكنه أبدا أن يكون ديمقراطيا. الأردن الديمقراطي نعم يوم يصبح الاتحاد المشرقي الذي أقترحه حريته الحقيقية واقتصاده الحقيقي ورجال بلاطه الحقيقيين كما يجري في المملكة البريطانية والمملكة الأسبانية والمملكة السويدية، وليس لأن ابن عمي كان وزيرا أرثه أو ابن خالي كان أميرا أحلم بالتاج على رأسي كمن يحلم غيري بالعصا على قفاه.

Read more…
زعران واشنطن يبحثون عن زعران مثلهم ليفاوضوا

أي مهزلة هي خطة البيت الأبيض الجديدة للسخام وأي بهدلة! أي مزحة ثقيلة الدم وأي زعرنة! كيف يمكن لشلة زعران من هذا النوع أن تقود العالم؟ كيف لا يعي العالم، كيف لا يعي عالمنا العربي، كيف لا يعي الفلسطينيون مدى سقوط هذا النوع من زعران العالم الأضعف زعرنة؟ وهم على الرغم من أنهم الأضعف تجدهم يستضعفوننا! أي مصاب إذن يعم العالم والعالم العربي والفلسطينيين! زعران من أضعف الزعران يتحكمون بمصائرنا، وهم اليوم سيربطونها بخطة مهزلة تدوم سنتين! سنتان فقط حول تحديد الحدود بين فلسطين وإسرائيل يجري فيها تبادل للأراضي، ومن يقول تبادل للأراضي يقول في الوقت ذاته تشريع للمستعمرات وأسرلتها! هذه الزعرنة بل هذه السفالة في السياسة لن تمشي علينا، لأن حل هذه المسألة ممكن حسب خطة أفنان القاسم في ساعتين، ولأن الخطة تعي ضعف الزعران، وتطالب الفلسطينيين أن يعوا أيضا هذا الضعف، ويقوموا بفعلهم المصيري، وذلك بالالتفاف حول الخطة، وفرضها بقوة من أجل حل شامل وكامل في وقت لن يتجاوز الأسابيع الثلاثة. والأنكى من كل شيء ما يوهمنا الإعلام به من ضغط على الأزعر الأصغر الفلسطيني ليقبل مثله مثل الأزعر الأصغر المصري بخطة البهدلة! وَلْكُمْ يا عمي هذا الشخص مثل أخيه لا يُضغط عليهما، هما ها هنا للأمر والتنفيذ، وهذه ما هي سوى مسألة زعران فيما بينهم... أما عنا، فنحن لا نريدهما هما وأربابهما معهما الأمريكان والإسرائيليين، ما نريده أن تناقش خطة أفنان القاسم، وأن تنفذ، أن ينسى الزعران أنفسهم من أجل شعوبهم، وهم إن لم يفعلوا أرغمناهم على ذلك، وفرضنا عليهم وجهة نظرنا .نرغمهم كلهم على قبول خطة أفنان القاسم المشرفة برفعها رمحا في وجوههم، فيا بشر الكتابة تحركوا قبل فوات الأوان، يا أمة اليأس انفضي عن كاهلك حراشف التهزيم، يا شعوب العرب افرضي نفسك في التذليل، فأنت لم تُهزمي يوما، ولم تُذلي، هم الزعران الأذلاء المهزومون.ويا رؤوس الأموال في العالم العربي اتحدي مرة واحدة فقط في حياتك من أجل خدمة القضية ومَوّلي مؤتمر بال للأكاديميين من أجل تأسيس دولة فلسطين كما نريدها نحن، أو اعطينا دينا ما يساعد على عقده بالفائدة التي تطلبيها.على الأموات أن ينهضوا، وأن يتحركوا، لا نريد منهم أن يصرخوا، ولا أن يكتبوا عشرات المقالات التي هي عبارة عن مقالة واحدة سمجة في خدمة الزعران مباشرة أو غير مباشرة، نريد منهم أن يفعلوا، وفعل المقاومة الوحيد الممكن حاليا: خطة سلام أفنان القاسم.
Read more…
Ottawa International Poets and Writers for human Rights (OIPWHR)