فن إدارة الوقت الضائع في عالم عربي ضائع
د. أفنان القاسم / باريس
في عالم ضائع كالعالم العربي ليست هناك سوى إمكانية واحدة لقيادته ألا وهي التصرف بوقته ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم وعاما بعد عام وهذا ما أدعوه بسياسة الإرجاء، ولهذه السياسة سلطة زمنية هي السلطة العالمية التي هي السلطة الأمريكية، والتي تعمل بدقة متناهية حسب مصالحها الجوهرية، ما عدا ذلك كلام في كلام، عنجهية الحكام الإسرائيليين أو انبطاح الحكام الفلسطينيين أو بضاضة الحكام العرب، لأن كل شيء مرسوم في مراكز القرارات الأمريكية سلفا لسنين طويلة قادمة، والذي يبقى كيف يدار وقت العالم العربي الضائع، ولإدارته بالطبع فن يحذق فيه العقل الأمريكي أكثر ما يحذق، لأنه ذو خبرة أكثر من غيره في الهيمنة والقمع والاستغلال، ولأنه -حتى في أكثر الأوضاع لامعقولية وعبثية- ذو إدراك مذهبه أن الكليات عبارة عن تركيبات من صنع العقل، بمعنى أن العقل قادر على الإبداع أو عدمه على العدل أو عدمه على المنطق أو عدمه، و"تعديم" المنطق والعدل والإبداع عن طريق العقل هو من الخطورة الشيء الكثير والذي يؤدي إلى فقدان العقل وانعدام التوازن والطفو على سطح الأشياء، وهذا ما يجري اليوم مع الإدارة الأمريكية التي لسلطتها الزمنية سيطرة صارمة على كل مظاهر الأمم وطاقاتها المنتجة، دون أن تبدو مع هذا كنظام كلياني كما كان النظام السوفياتي، ولا كمحتل لاأخلاقي كما هو المحتل الإسرائيلي، وللعقل "الشرير" آلية العقل "الخيّر" لكن ما يفصل بينهما ويرجح كفة الأول على الثاني هو امتداده العملي المتمثل بزبانيته وأبواقه وعملائه، وهم في الحالة العربية-الإسرائيلية معروفون كلهم، ولا فرق هنا بين نتنياهو وعباس ومشايخ الخليج مثلا، لكل منهم دوره المتكافل، ولكن الأهم في مسرح العبث هذا أولئك الذين يعتبرون أنفسهم واقفين في الوجه المقابل الوجه المضاد للعقل الأمريكي من أساتذة جامعات وكتاب وناشطين من كل نوع وصحافيين وغيرهم من بائعي الطعمية الوطنية وساندويتشات أحلام التحرر والانعتاق، لأن لخطابهم كلهم أثرا معاكسا لما يروجون، وهم يكرسون دون أن يشاؤوا كل آفات الذين يظنون محاربتهم، ويبررون دون أن يشاؤوا كل أفعال الذين يظنون فضحهم.
تحت سلطة هذا الزمن الضائع، يعرف أذيال أوسلو جيدا أن ما توصلوا إليه هو كل ما توصلوا إليه وكل ما يمكنهم التوصل إليه لهذا أن تسمى المفاوضات مباشرة أو غير مباشرة يبقى الأمر في إطار التسميات والفذلكات اللفظية فقط لا غير، فالمفاوضات كانت من قبل مباشرة، ولم تؤد إلا إلى ما أدت إليه، ولن تؤدي إلى أكثر مما أدت إليه، ويعرف ضباع الإسرائيليين أن المفاوضات كانت وستبقى من داخل المنطق السائد للعقل الأمريكي وآليته: لوبي ويهودية وماسونية وصهيونية واختراق وتغلغل وبيت أبيض وبيت أسود وبنتاغون وسي آي إيه وهم من وراء 11 سبتمبر 2001 وهم من أمام وهم وهم وهم وكل هذا التهويل يخدم مصالح البيت الأبيض تارة بإلقاء التبعية على الغير من أجل تبرير ما لا يمكن تبريره وتارة من أجل لجم الإبن العاق عندما يتجاوز الخطوط المرسومة له، وهذا ما حصل مع نتنياهو لما صاح عليه أوباما صياحا أعلى بقليل من المعتاد وذكره بما عليه من شروط إلزامية -أن يلتزم بها أم لا هذا شيء آخر ودائما من خلال آلية العقل الأمريكي الحاكم-.
للخروج من مأزق الزمن الضائع ليس للعقل "الخيّر" حاجة إلى بروست فلسطيني، هذا العقل استطاع أن يتحرك يهوديا في بروكسل، وأن يسجل بعض النقاط الإيجابية والهامة ضد السلطة الزمنية في إسرائيل وبالتالي ضد السلطة العالمية التي هي السلطة الأمريكية، ولا يسعني سوى أن أحيي مثل هذه المبادرة التي ليس أبدا كل أعضائها صهاينة كما يدعي البعض، ومن بينهم المؤيد الذي لا يلين للشعب الفلسطيني وقضيته ودولته، وأنا هنا لا أتوقع من هذا العقل ما أتوقعه من عقلنا، ولا أطالب هذا العقل بما أطالب عقلنا، ولكن الحد الأدنى منه يكفيني، والحد الأدنى في الاتجاه الإسرائيلي هو حد أقصى ارتعدت له فرائص حكام إسرائيل، وأنا يا من قدم للعقل الفلسطيني العربي خطة يجب القتال من أجل تنفيذها لأنها خطة استرداد كل الحقوق الفلسطينية كاملة لم يتحرك هذا العقل حولها ومن أجلها، لأنه في واقع الأمر ليس موجودا أو هو مصادر مصادرة المال العربي والكيان العربي والجوهر العربي، فهل يتحدى هذا العقل السلطة الزمنية العربية، وبالتالي السلطة الزمنية الأمريكية، وهل يقوى على القيام بالمهمة التي ألقيها على عاتقه من أجل الانعتاق، مهمة السلم المقاوم، والذهاب بنا من سياسة الإرجاء إلى سياسة الإنجاز؟
Comments