قسمة ما بعد 94: «الزمرة» للرئيس و«الطغمة» للإصلاح
واجه الرئيس صالح احتجاجات الجنوب بالعودة الى استخدام أسباب الأزمة التي يطالب الجنوبيون بمعالجتها، إذ عاد الى صيغة شبه موازية لتحالف حرب 94.
ومثلما أعاد بعض “الزمرة” وبعض خصوم الاشتراكي ما قبل 86 إلى بعض المواقع الوزارية والمحلية فضلا على المواقع العسكرية، سارت حركة توزيع المال السياسي والأراضي وغيرها من المصالح الشخصية على الجنوبيين وفقا لخطة ترتكز على تكريس الشروخ الجنوبية- الجنوبية. ولم تقتصر خطة تكريس الشروخ الجنوبية على الطريقة اللينة فحسب، بل اعتمدت أيضا على الطريقة الخشنة.
ولقد كان هذا واضحا في تشديد الحصار والقمع داخل محافظة “الضالع” وبقية المناطق المحسوبة تاريخيا على ما يسمى بـ”الطغمة”، في حين خففت القبضة الأمنية من خشونتها داخل أبين وبقية المناطق المحسوبة على ما يسمى بـ”الزمرة”. وبذلك، نقلت هذه الخطة الخطيرة حركة الاحتجاجات من المطالبة بإنهاء ما يصفونه بـ”التمييز الشمالي” القائم ضدهم الى مكابدة التمييز الجنوبي- الجنوبي بينهم. وقد “تَـكَـعَّـفُـوا” هذا التمييز الداخلي وسطهم بصمت.
ولما كان شركاء الرئيس صالح في حرب 94 يتمتعون بنصيب الأسد من سلطة إدارة وتوجيه “اللقاء المشترك” المعارض، فقد كان عليهم القيام بواجبهم في مواجهة الاحتجاجات.
وقد فعل الإصلاح ذلك بطريقته، وسارت معه بقية أحزاب التكتل تحت دعوى حرص الجميع ومسؤوليتهم الوطنية تجاه حماية الوحدة اليمنية.
وقد ضاعف هذا من تكريس الشروخ الجنوبية، إذ استند الإصلاح في عدم الوقوف داخل خانة الشريك في آثار حرب 94 على الاشتراكي، شريكه الحالي، تحت مظلة المقصيين من السلطة.
وارتكز في مواجهته للاحتجاجات الجنوبية على شريكه المحسوب تاريخيا على أنه “طغمة”. وبهذا، تضافرت “الجهود الوطنية” للدفاع عن الوحدة في مواجهة “الجنوب الانفصالي”.. هنا، محاولة لمقاربة ما حدث.
استخدام القبضة اللينة والخشنة مع علي ناصر والعطاس
خاضت السلطات اليمنية المواجهة مع الاحتجاجات، منذ البداية، على جبهتين، داخلية وخارجية، مستخدمة قبضتيها اللينة والخشنة في آن.
خارجياً، لعبت القبضة اللينة دورها عبر بعثات التفاوض غير المعلنة رسميا من صنعاء الى القادة الجنوبيين الرئيسيين الذين تصدروا “القضية الجنوبية” في الخارج، وأبرزهم: الرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد، وخلفه الدستوري حيدر أبوبكر العطاس.
وقد تناقلت وسائل الإعلام المحلية أخبار هذه البعثات طوال النصف الأخير من العام الماضي ومطلع الحالي، فيما أكد ناصر والعطاس - في عدة مقابلات صحفية أجريت معهما (آخرها مقابلتي “النداء” في أعدادها الـ3 السابقة)- وجود نوع من هذا التواصل بينهما وصنعاء، لكنهما كانا يقولان إن القضية ليست شخصية بل عامة طالما المشكلة كذلك.
ثم أتى دور التعاطي معهما بالقبضة الخشنة: الضغط عليهما عبر البلدان العربية التي يقيمان فيها أو تربطهما بها علاقات.
وقد أكد علي ناصر أن صنعاء احتجت لدى سوريا على نشاطه، وحمَّـلت “بعض الأشخاص” ملفات تحمل اتهامات له إلى مسؤولين في بلدان عربية لم يسمها، (“النداء”، 26 نوفمبر المنصرم). وأشار إلى محاولات الاغتيال التي كان اتهم صنعاء بتدبيرها، بعد أن كان العطاس تحدث عن تعرضه لمحاولة مماثلة، (“النداء”، 19 نوفمبر).
في المقابلة المذكورة، قال الرئيس الأسبق علي ناصر محمد: “بعض الأشخاص حملوا ملفات إلى بعض المسؤولين في عدد من البلدان العربية يحملونني فيها مسؤولية الحراك في الجنوب والحرب في صعدة وبني حشيش والعداء للوحدة اليمنية”.
ويحمل هذا إشارة إلى بلدين قد يكونا المقصودين في حديث الرجل: السعودية وليبيا.
فقيادتا هاتين الدولتين على علاقة جيدة بعلي ناصر.
وبأخذ المعلومة كما هي ودون افتراض التهكم، فإن موقف الأولى من النزاع المسلح في صعدة يعطينا تصورا لطبيعة التحريض الذي قد تكون حملته ملفات صنعاء.
في حين أن تشبث القذافي بحكاية الوحدة العربية يعطينا تصورا لتحريض الملفات على الرجل عبر اتهامه بـ”العداء للوحدة اليمنية”.
وعلى الأرجح أن ملفات صنعاء وجهودها الخارجية باتجاه الضغط على قيادات “القضية الجنوبية” في الخارج قد أدت إلى نتائج.
فبالرغم من أن علي ناصر والعطاس ظلا متمسكين بمواقفهما، إلا أن نشاطهما وحركتهما وسقفي خطابيهما تعرضا لضربة.
وقد لوحظ أنهما لزما الصمت أو تحدثا بنبرة خافتة، قبيل وبعد ضربة أبريل التي ألقت الحركة الاحتجاجية أرضا.
وتقول المعلومات إن العطاس لا يستطيع إطلاق أية تصريحات من مقر إقامته في السعودية، بعد أن كانت الشقيقة الكبرى سمحت العام الماضي لعدد من الشخصيات الجنوبية بتوجيه خطابات هاتفية من أراضيها أذيعت على المعتصمين في المحافظات الجنوبية.
وينطبق الأمر نفسه -وفقا للمعلومات- على علي ناصر في سوريا.
لذا يلجأ كلاهما الى مصر عند رغبتهما القيام بأي نشاط إعلامي.
استخدام القبضة اللينة والخشنة ضد الاحتجاجات
تقاسمت القبضتان اللينة والخشنة خوض المواجهة مع الاحتجاجات، مركزتين على تكريس الشروخ الجنوبية - الجنوبية، وبوجه خاص ملف يناير 86.
وقد لعب هذا دورا كبيرا ومؤثرا في ضرب الحركة الاحتجاجية.
القبضة اللينة: توريث وتكريس للتمييز بين الجنوبيين
وسار أداء القبضة اللينة على مستويين رئيسيين، الأول: توزيع المال السياسي والأراضي والسيارات على الجنوبيين في سياق ما تصفه الاحتجاجات بـ”شراء الذمم”.
واعتمدت حركة التوزيع هذه، بشكل أساسي، على تكريس الشروخ الجنوبية عبر استهداف أطراف ومناطق جنوبية معينة ومحسوبة غالبا على “الزمرة” وبقية خصوم الاشتراكي ما قبل لحظة يناير 86: جبهة التحرير، مثلا.
وتمثل المستوى الثاني في استيعاب الشخصيات الجنوبية التي تتمتع بوجاهات عسكرية وقبلية تحديدا في مواقع داخل السلطتين المركزية والمحلية وتمكين الجنوبيين الموجودين أصلاً في هاتين السلطتين من لعب “دور” في السياسات المركزية داخل الجنوب، إلا أنه ظل في الغالب دورا ديكوريا، على ما درج الخطاب الاحتجاجي في دور الجنوبيين الموجودين في السلطة.
وشهد العامان الماضي والحالي حركة تعيينات واسعة لجنوبيين في مواقع ومؤسسات مركزية ومحلية، وقد انهمر سيل تعيينات وكلاء المحافظات بغزارة في الجنوب والشمال. وإلى جانب تركيزه على تكريس الشروخ الجنوبية السالفة الذكر، استهدف سيل التعيينات أبناء “الشهداء” والقيادات الجنوبية الراحلة وأبناء الشخصيات القبلية والعسكرية والسياسية التي ما تزال على قيد الحياة، في توطيد شنيع وكارثي للتوريث كمصير محسوم ونهائي ووحيد أمام هذا البلد.
واتجهت صنعاء إلى الحكم المحلي تحت ضغط الاحتجاجات.
ففي 17 مايو الماضي، شهدت البلاد أول انتخابات للمحافظين الذين كانت سلطة تعيينهم في يد رئيس الجمهورية.
وأتت هذه الخطوة -بحسب مصدر مطلع- بناء على توصيات “لجنة إدارة الأزمة” التي تشكلت لمواجهة الاحتجاجات، في فبراير الماضي، من مسؤولين رفيعي المستوى برئاسة نائب الرئيس حينها وأمين عام المؤتمر حاليا، عبد ربه منصور هادي (زمرة)، الذي بدا أن الاحتجاجات أعادت إليه بعض “الدور”. ولم تكن هذه الخطوة الوحيدة التي أقدم عليها الرئيس بضغط من الاحتجاجات.
ففي بداية الشهر نفسه، اتخذ تعديلاً وزارياً أعطى حقائب لبعض القيادات الجنوبية التي كانت قد تعرضت أجنحتها لـ”القصقصة” أو أوشكت على ذلك: أحمد مساعد حسين، مثلا.
وركزت هاتان الخطوتان، التعديل الوزاري وانتخابات المحافظين، على تكريس الشروخ الجنوبية بالطريقة نفسها.
القبضة الخشنة: تشديد الحصار على مناطق «الطغمة»
اعتمدت السلطات في استخدامها للقبضة الخشنة ضد الاحتجاجات على محاصرتها واعتقال قياداتها واستخدام القوة ضد المشاركين في الاعتصامات.
ورغم أن الأخيرة تواصلت بعد أبريل الماضي، إلا أنها شهدت تراجعا إثر الضربة التي تلقتها مطلع ذلك الشهر، إذ لم تتمكن الحركة الاحتجاجية، بعدها، من إقامة أي اعتصام مركزي كبير في عدن، وتعرضت كل محاولاتها بهذا الشأن للتعثر في ظل استمرار العمل بخطة أمنية اعتمدت على الانتشار العسكري والأمني المكثفين داخل الجنوب لمحاصرة بؤر الغليان الرئيسية واتخاذ خطوات استباقية في تفريق أنوية الاعتصامات قبل تشكلها، من خلال: منع المحتجين من الوصول الى الساحات الاحتجاجية، وتنفيذ حملات الاعتقالات الواسعة وسطهم.
وقد تضاعفت حصيلة الاعتقالات بعد أبريل، دون أن يكون هذا مؤشراً إلى أن الاحتجاجات في ذروة نشاطها، بل إلى أن قبضة السلطات اليمنية الخشنة تعمل بطاقة مضاعفة.
ففيما كان عدد المعتقلين في النصف الثاني من 2007، الذي شهد ذروة الاعتصامات، 441 حالة، بلغت حصيلة الفترة 1 أبريل- 31 يوليو 2008، التي تراجع خلالها النشاط الاحتجاجي، 864 معتقلاً، حسب إحصائية “المرصد اليمني لحقوق الإنسان” للمعتقلين والجرحى والقتلى من المحتجين المسجلين لديه منذ بداية المواجهات مع قوات الأمن. وتظهر الإحصائية، بالمثل، ارتفاعاً في عدد “الجرحى والمصابين برصاص حي أو قنابل مسيلة للدموع” بلغ 67 حالة خلال فترة تراجع الاحتجاجات في 2008، فيما لم تصل حصيلة إصابات 2007 الى نصف هذا العدد (32 حالة فقط). وقد سقط من المحتجين منذ بداية المواجهات مع قوات الأمن 14 قتيلاً: 7 منهم في 2007 والـ7 الآخرون بين أبريل ويوليو 2008.
ملف 86 ما يزال الورقة الفاعلة في إدارة الجنوب
في وجهيها السياسي والأمني، ارتكزت ضربة أبريل على الشروخ الجنوبية وبوجه خاص أحداث يناير 86. فمثلما انحصرت حركة التعيينات في السلطتين المركزية والمحلية على خصوم الاشتراكي من الجنوبيين المحسوبين على “الزمرة” وبقية المقصيين الجنوبيين قبل 86، استهدفت ضربة أبريل، في وجهها الأمني المتمثل في حالة الحصار الشديدة، المحافظات الجنوبية المحسوبة على “الطغمة”. وهكذا، فإن أحداث يناير 86 ما تزال الورقة الفاعلة في إدارة الجنوب ووحدته مع الشمال، وكأن “الوحدة اليمنية” لا تقوم إلا على انقسام الجنوب على نفسه.
“حروب المناطق الوسطى” معكوسة وبدون سلاح
في مقابلة أجرتها معه قناة “الجزيرة” وأعادت نشرها صحيفة “الميثاق” المؤتمرية في 8 أكتوبر 2007، عاد الرئيس صالح إلى التذكير بأنه لم يكن وحده حين انتصر على الحزب الاشتراكي في حرب صيف 94.
إلى جانبه، كان يقف الإصلاح والمجاهدون الأفغان، علاوة على “الزمرة” والدور السياسي لخصوم الاشتراكي ما قبل يناير 86.
لذا فقد كان على شركائه، في تلك الحرب وقسمتها، القيام بأحد أمرين إثر اندلاع الاحتجاجات مطلع العام الماضي: الوقوف معه، كلاًّ بطريقته، في مواجهتها؛ أو الاعتراف بـ”القضية الجنوبية” والانضمام إليها بعد إبراء الذمة من قسمتها.
وقد اضطر الإصلاح لمواجهة الأمر بطريقة اعتبرها ملائمة تحت تزايد ضغوط الرئيس عليه لاتخاذ موقف من الاحتجاجات، بدعوى ضرورة أن يتخذ “اللقاء المشترك” المعارض موقفا من “الدعوات الانفصالية” في الجنوب.
أراد الرئيس بيانات باسم “المشترك” تدين الاحتجاجات، ووجد الأخير مخرجا أنسب: البدء في تنفيذ اعتصامات في المناطق الوسطى (تعز وإب) ترفع “الروتي” و”دِبَبْ الماء” الفارغة مع شعارات رافضة لغلاء الأسعار والفساد بهدف تجريد “القضية الجنوبية” من خصوصيتها (سبق لي تناول هذه النقطة في موضوع مستقل قبل أسبوعين).
كان ذلك في النصف الأخير من العام الماضي، حين أخذت الاحتجاجات الجنوبية في التصاعد الميداني.
وقد شقت اعتصامات “المشترك” طريقها في “تعز” و”إب” قبل أن تنتقل الى المحافظات الجنوبية، في مسار قريب الشبه من حروب المناطق الوسطى بين الشمال والجنوب في السبعينيات والثمانينيات.
وفي أواخر العام، اصطدمت الحركة الاحتجاجية بـ”المشترك” في أحد اعتصاماته بـ”الضالع”. وخلال كل هذا، لم تعرف قواعد التكتل المعارض، في المناطق الوسطى كما في الجنوب، الهدف الحقيقي من تلك اعتصامات “الروتي” و”الدبَـبْ” الفارغة.
ورغم أن “المشترك” عاد في الشهور القليلة الماضية الى الجنوب محملا برغبة شديدة لاستئناف الاحتجاجات بعد التحولات الكبيرة التي نشهد صراعاتها الآن في تحالفات الرئيس مع الإصلاح، إلا أنه لم يفارق مشكلته مع “القضية الجنوبية”.
Comments