بيروت: حرب وسلم
حطمت الضربات الأولى للجنود العرب خلال حرب رمضان إلى الأبد أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وبدّل تقدم الجيش المصري في سيناء والجيش السوري على هضاب الجولان جذريا توقعات مخرج للحرب، فقد كان يمكن هزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين. ونظرا لهذا الأمل الشعبي، أخذت المزايدة "الثورية" لياسر عرفات في موضوع استرداد فلسطين بعدًا آخر تمامًا، كان يريد خوض "حربه" في ميدانين، سياسي وعسكري: في الميدان العسكري كان يصدّر، بشكل من الأشكال، بضاعته الثورية إلى "السوق" الداخلية مبديًا أنه كان قادرا هو أيضا على هزيمة إسرائيل، وفي الميدان السياسي كان يدفع جبهة نايف حواتمة المعروفة بأفكارها "الجسورة" و"النادرة" بالمطالبة بإقامة دولة فلسطينية "ديمقراطية" تتعايش فيها الأديان الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية.
وبالطبع، لم يُترك المشروع الأساسي الهادف إلى وضع بيادق إسرائيل على رقعة الشطرنج السياسية العربية وإنما أُجّل، لأن شبح الحرب الأهلية اللبنانية كان يزداد تهديدا أكثر فأكثر، وتقسيم الأحزاب المدعوة وطنية كان يزداد بروزا أكثر فأكثر، أما الكتائب، فقد بقوا على مواقفهم أكثر من أي وقت آخر.
كانت نتيجة حرب أكتوبر تعميم فكرة "اعمل الحرب على إسرائيل ولكن اعمل السلام مع الشعب الإسرائيلي"، فكانت الدولة الديمقراطية المقترحة تعتمد حقا على سابقة لا يمكن تفاديها لفلسطين محررة، ولكن تُحفظ فيها الهوية اليهودية، مما يعني وجود إسرائيل تحت شكل دَوْلي (من دولة) آخر. لم ينخدع أحد بفحوى هذا المشروع غير القابل للتحقق. وفي كل الأحوال، كانت أغلبية الفلسطينيين لا تعتقد بمثل تلك دولة، وقد رفضتها فتح "حركة عرفات" سلفًا.
كل هذا كان يلعب في صالح إسرائيل: الحل الوحيد الذي بقي كان قبول وجودها مع فرض حل لاحق للوضع، مما كان يعني موديلَ عربيا مشابها للدولة العبرية، وباختصار حل الدولة المسيحية المقترحة من طرف الكتائب، وبمصطلحات أخرى الحرب اللبنانية، حتى إن الكلام كان يدور عن "اعتراف عربي" دون تحديد أن صفة "عربي" لن تغطي إلا دول النفط التي كانت الدولة المسيحية تعني لها قبل كل شيء أن توضع تحت تصرفها غير بعيد عنها كباريهات ومواخير سويسرا العرب، وتنطوي على اعتراف ضمني بدولة أخرى قائمة على الدين: إسرائيل.
تقديم يد العون لعرفات كان كبيرا! إلا أن الأسد، بطل الوحدوية والعروبية، قد عارض ذلك معارضة شديدة، فقد كانت لسوريا أطماع في لبنان منذ كان لبنان، "لبنانها"، كل لبنان، لبنان سوريا الكبرى. وسيزوده ياسر عرفات فيما بعد، هو، بطل الوحدوية والعروبية، بفرصة لتحقيق هذا الحلم. ولكن في الوقت الحاضر، كان عليه الانشغال "بحلمه"، كان عليه أن يكون حاضرا على كافة الجبهات ووراء كل الحكام العرب المشانين ليدعمهم هم وأنظمتهم الدموية، لأن هؤلاء الحكام أنفسهم سيدعمونه في المستقبل حينما يحين ذلك، وسيقوون نظامه، نظام دكتاتوري كأنظمتهم.
سيتساءل القارئ حتما، ولكن أين ذهبت الديمقراطية التي كان عرفات يتغنى بها؟... ديمقراطية هذا الشخص لم تكن ولن تكون إلا واجهة، فترينة في شارع التعهر الفلسطيني. كان يطبق "الديمقراطية" عندما يريد تمرير "قراراته" بواسطة أزلامه. وعلى التأكيد: كانت الأغلبية لأزلامه في كل المؤسسات والسلطات. عندما لم يكن يمكن لأزلامه ابتلاع كل ما يريد، عندما كان لا يمكن للمنطق ولا للامنطق قبول ذلك، كان شعاره هو التالي: "قولوا ما شئتم أفعل ما أشاء!". أذكر عند أحد انتخابات اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، أتى مئات الصحفيين والكتاب الأدعياء ليصوتوا من أجل فوز بيادق عرفات، فتساءل الكل إذا ما كانوا كتابًا أم قراءً، وليكتشف الكل في آخر الحساب أنهم كانوا سائقي ومستخدمي ياسر عرفات، وقد زودهم ببطاقات مزيفة.
كان عرفات غشاشا وخداعا، كان يدعي أنه انتخب ديمقراطيا، وكان يدعي أن تمثيله كان شرعيا، ولكنه ككل حاكم جائر كانت ديمقراطيته تباع في دكاكين التنزيلات، وكان تمثيله ملفقا. مبارك أيضا يقول عن نفسه ديمقراطيا، هذا اللامؤهل لشيء الذي يعاد "انتخابه" منذ عشرات السنين! بن علي أيضا، هذا النصاب العابد له الغرب! وعندما يعترض أحد على وضعه، كان عرفات يدفع لمن فقدوا عقلهم كي يدوروا في الشوارع وهم يلوحون بصورته المبروزة - يا سلام عليك يا فخامة الرئيس! - وكانوا يصرخون: "يحيا زاباطا!" كانت طريقته ليقول للغربيين إنه شعبي، وإنه هنا لخدمتهم، أكثر من بن علي ومركباته السياحية، أكثر من مبارك وكباريهاته في شارع قصر النيل. عرفات وأزلامه، مغتصبو السلطة والحياة هؤلاء، يدّعون أنهم ممثلو الشعب الفلسطيني، ولكنهم في الواقع لا يمثلون إلا أنفسهم، ولا يعملون إلا لمصالحهم. يختبئون وراء فلسطين، ورق توتهم، كالحكام العرب ذات يوم، ليخبئوا قذارتهم، ويخفوا جشعهم، ولكن على الخصوص ليحتفظوا بالسلطة أكبر وقت ممكن.
في ثوب "الديمقراطي" هذا أراد عرفات المدمى أن يكون حاضرا في المشهدين العربي والدُّوَلي، وسأتكلم عن هذا في اللحظة المناسبة. لهذا السبب جعل من نفسه صديقا للقذافي وللملك السعودي، وكان المفضل لدى السادات والنظام الماركسوي في جنوب اليمن. كان يلعب دوره كعميل للموساد وللسي آي إيه على أكمل وجه: قائد سياسي دون أي لون! مع السعوديين كان سعوديا أكثر من السعوديين، ومع البعثيين كان بعثيا أكثر من البعثيين. كان بن علي ينهل من نفس الحيل، عندما يجد نفسه منعزلا في المشهدين العربي والدولي بصفته عميلا مزدوجا للكي جي بي والسي آي إيه كان يعلن نفسه كوريث لبورقيبة في استمرارية دموية "تونسية"، فيتم قبول ذلك في عيون الكل! ويجد الغربيون وخاصة الفرنسيين أن لا بأس في ذلك لتبرير دعمهم لنظام الحداثة - لأن بورقيبة يبقى لهم حديثا طالما تعددت المركبات السياحية حتى بعد مائة سنة بعد موته - ولإبراز صداقتهم التقليدية مع تونس وتقوية الروابط التاريخية الجامعة للبلدين! عرفات، هو، كان يجرؤ على القول عن نفسه بورقيبي، شيوعي، وخمينيي! ولم لا في يوم ما صهيوني؟ لهذا السبب يبدي رؤساؤه في واشنطن وتل أبيب رضاءهم التام عنه.
بهذه الطريقة نجح عرفات في بناء صورته ليصل إلى وضع يكون فيه رئيس دولة حقيقيا، هلوسته، دوخانه، كابوسه، تعذيبه. ومن أجل هذا، كل الوسائل كانت ممكنة: ديمقراطية في دكاكين التنزيلات، انتخابات مزورة، تمثيل خاطئ، وخاصة دون أية بطاقة أيديولوجية. كان رئيسا كالمفتاح الذي يفتح كل الأبواب، والذي يمرر كل شيء: "رغبة" السادات في الذهاب إلى القدس ليصلي، أو "طموح" الأسد إلى احتلال لبنان. في اللحظة التي كان السادات فيها يعلن للعالم أجمع بداية سلسلة من الاستسلامات لا سابق لها في تاريخ الإنسانية، كان عرفات يجلس على مقعد منعزل هناك في مجلس الشعب، كان قد حضر ومعه ضمانه لخطوة السادات المشؤومة حتى إنه كان يتمنى الذهاب معه ليسلم على موشيه دايان وجولدا مائير، لكن الوقت لم يكن بعد قد حان لتحقيق أمنية كهذه، لأنه لم يتخل بعد تماما عن فكرة تحرير فلسطين. بعد أن صلى السادات تحت بساطير الإسرائيليين، استعاد سيناء، ثم لا شيء. وعندما أخذ يطالب بالباقي، بالمن الموعود، بمليارات الدولارات، بالثروة التي وعد بها شعبه، قتلته السي آي إيه باتفاق مع مبارك. أذكر هذا السيناريو الجهنمي في كتابي "أربعون يوما بانتظار الرئيس".
أما الأسد، فقد كان بحاجة إلى انفجار الحرب الأهلية في لبنان. كانت الثورة الفلسطينية تقوى يوما عن يوم، وكان يلزمها واحد أقوى منها كي يقطع لها ليس الأصابع كما فعل الملك حسين ولكن الرأس. وكانت مهمة عرفات بلا نزاع إشعال فتيلة الحرب وتسهيل الأمر لإقامة دولة مارونية (الفعل الكتائبي الإجرامي الذي ارتكب في حق فلسطينيي الباص المعروفة قصته سيناريو متقن لإلقاء تبعة الحرب على غير الثعلب "المكوفف" صاحب الكوفية) كانت عائلة الجميل قد شكلت أرمادا كبرى بفضل العون العسكري الإسرائيلي: وبشكل من الأشكال كانت إسرائيل هي التي تقاتل في بيروت لتحقيق أهدافها الخاصة بها. عاند مقاتلو المخيمات وعلى رأسهم مخيم تل الزعتر الكل، وخاضوا معركة ضارية، وسجلوا بعض النقاط. فماذا فعلت الحرباء؟ ماذا فعل عرفات؟ بدلا من البحث عن تحرير لبنان ثم فلسطين، جر الأسد إلى نجدة الكتائب بعد أن تكبدوا خسائر فادحة. وقد كان الأمر سهلا للسوريين، كانوا هناك إلى جانب "العدو"، العدو ذاته الذي كان يقسم بحرق دمشق إذا ما تجرأ الأسد ووضع قدمه في زحلة! وفي نهاية الأمر، لم يضع الأسد قدمه في زحلة فحسب بل وفي كل بلد الأرز... لقد حقق بطل الوحدوية والعروبية بفضل عناد مقاتلي عرفات حلمه في ضم الأراضي اللبنانية. كان ذلك ما يعود عليه بشكل من الأشكال "مقابل" تخليه عن الجولان للإسرائيليين. هذا ما كان يسميه عرفات أن يكون حاضرا على كل الجبهات: أن يعرض خدماته على الأنطمة الإستبدادية. أضعف الأسد كالملك حسين من قبله الفدائيين بفضل تواطؤ عرفات. "ليس أنا! كان يقول محتجا أمام كاميرات العالم وهو يذرف دموع التماسيح. أنا، ما أنا سوى ضحية! الشعب الفلسطيني وما أدراك ما الشعب الفلسطيني، الثورة الفلسطينية وما أدراك ما الثورة الفلسطينية، قضيتي المقدسة، القضية العادلة لشعبي... الخ!".
لقد تقدم مشروع المخابرات الأمريكية والإسرائيلية تقدما ملموسا: من الآن فصاعدا إسرائيل توجد كهوية دَوْلية دونما حاجة إلى موديل آخر مشابه في قلب المنطقة. لقد زودها التدخل السوري في لبنان بالذريعة التي بموجبها ستتدخل بدورها هي أيضا في الحرب دون وساطة الكتائب، فدخلت أخيرا بصفتها دولة بأتم معنى الكلمة من باب المنطقة الواسع. في 1982، أتم جنرالات الجيش الإسرائيلي "الشغل" الذي بدأه الأسد بإنهاء حركة المقاومة، وبإلقاء فكرة تحرير فلسطين بالسلاح في وهاد النسيان.
يتبع...
ترجمة الدكتورة بريجيت بوردو - مونتريال
أفنان القاسم: دفاعا عن الشعب الفلسطيني، كيف ولماذا تمت فبركة ياسر عرفات؟، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 31 - 36.