البروفيسير أبو يعرب المرزوقي: الفيلسوف العربي المترجم و المترحل في متن الفلسفة الألمانيةالأستاذة :سلمى بالحاج مبروك الخويلدي"ان تعقد الحياة الإنسانية وما فيها من سر يعدان من مقومات الأناسة التاريخية. وكلما ازدادت معرفتنا بالإنسان ازداد جهلنا الدائم به. وفي عصرنا ليس بوسع ثقافتنا ومجتمعنا التخلص من هذه العلاقة المتلازمة، والالتفات إلى الماضي التاريخي والتطلع إلى الثقافات الأخرى يجعلان ذلك بين الوضوح."[1]تقديم كتاب علم الاناسة، التاريخ والثقافة والفلسفة:هاهو أبو يعرب يطل علينا من جديد بعد فترة من الإنتقاب مستعلنا وممعنا في التجلي عبر أثر جديد ترجمه عن الألمانية لغة الكتاب الأم الأصلية إلى العربية لغة الفيلسوف الأم مقدما بذلك دليلا على قدرة اللغة العربية ومن وراءها الثقافة العربية على إستيعاب منسوب مياه حكمة الغرب والثقافات الأخرى من فلسفة وأفكار معاصرة داحضا إدعاءات من يعتبرون أن اللغة العربية ليس باستطاعتها قول حمولة العلم المعاصر وفلسفته وأنها غير قادرة على التجديد الثقافي والعلمي ولا هي قادرة حتى على تجديد نفسها كلغة فما بالك بالتجديد الفلسفي والفكري وكأن أبو يعرب الفيلسوف والمترجم هو ابن رشد هذا العصر وقد آمن بضرورة وأهمية الترجمة في بعث حراك فكري تتجادل فيه الذات مع الآخر بكل ندية فلسفية مادا بهذا الجهد المتفرد جسور التواصل بين مختلف الثقافات الإنسانية عبر تأصيل فعل الحوار الحق المنبني على تكافئ الفرص الثقافية بين الأنا والآخر مؤمنا بأن مثلما أتعرف على نفسي في الآخر يتعرف الآخر على نفسه في, ومن هذا المنطلق تزول وتسقط كل نظريات الاستعلاء في الآخر كما تسقط كل نظريات مركب النقص فينا لينخرط الجميع في فعل بناء حضاري مشترك مبشرا عبر هذا الفعل بتهاوي مقولات فلسفات "الإنسان الأخير ونهاية التاريخ "وصدام الحضارات" وليدشن عصر استئناف فعل التفلسف المشترك فيكون عودة الإنساني هي بمثابة عودة "المهدي المنتظر" و"المسيح إلى الأرض" الذي تحدثت عنه الثقافتين العربية والأوروبية بعد أن دخل كليهما في مرحلة انتظار الخلاص الإنساني فالثقافة الأوروبية تموت من شدة الانفتاح والثقافة العربية تموت من شدة الخصوصية والنتيجة واحدة للاثنين هو الموت . فهل يكون عصر الخلاص قد حل بإعلان عودة الإنسانية وانبعاث جديد للإنسان من رقاده العبثي وموته المفاجئ في عصر التقنية والعلم ؟ وهل يحق لنا أن نستبشر مع ولادة كل أثر ينقل إلى العربية أو كل أثر عربي يترجم إلى اللغة الأوربية أننا أمام "منعرج إناسي" ينبئ بأن العهد الإنساني آت لا ريب فيه وأن "حق عودته " مضمون وأن هروب الإنسان من لقاء الإنسان الآخر بوصفه شبيهه باتت فكرة من الماضي بعد أن وعى العقل الأوربي المضيق النظري الذي انتهى إليه عبر إمعانه في إيديولوجيا التمركز حول الذات وما انتهت إليه هذه الثقافة على الصعيد العملي من حروب ومآسي إنسانية وأزمات اقتصادية نتيجة عولمة عبر قارية متوحشة لا تبقي ولا تذر.من هنا تزايدت اهتمامات المفكرين الأوربيين بضرورة الاهتمام بعلم الإناسة باعتبارها البوابة التي يمر بها الشأن الإنساني في مختلف تجلياته الطبيعية والثقافية والمعرفية والإيتيقية ، عبر تأسيس لإناسة حديثة متحررة كما يقول مؤلف الكتاب البروفيسور الألماني "كريستوف فولف" من الأوربية والعولمة وتحريره من المركزية بالسعي إلى تجاوز القوميات".من هنا تأتي أهمية ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية وخاصة إذا كانت الترجمة على يد فيلسوف عربي عريق أتقن الإبداع في صلب ثقافته عبر حكمته الصارمة التي تميزت بدقة المفهوم وصرامة المنهج سائرا على خطى الفلاسفة الكبار أمثال المعلم الأول أرسطو والمعلم الثاني الفارابي في مستوى صياغة القول الفلسفي ومن نفس قدر ابن رشد ترجمة سيما وأن أبو يعرب يترجم مباشرة من لغة هلدرلين وجوته وهيجل وهيدجر وهي من اللغات العريقة في التفلسف ونحن نعلم بحق حجم الإرث الفلسفي الألماني في تشكيل وعي الإنسان الانواري والإنسان المعاصر مثلما اثر الفكر اليوناني في إرث إنسان العصر الوسيط . فأبو يعرب بانكفائه على الترجمة الألمانية لأهم ما يصدر فيها من أطروحات جديدة وفلسفات هامة يهدف إلى "سرقة نار الحكمة" بالمعنى البروميثيوسي من هذا الفكر العريق والاستفادة من تجاربه الفلسفية وأخذ خلاصة رحيق الفكر الألماني وتقديمه لثقافة العربية حتى تتمكن من الإطلاع عما يحدث في "الضفة الغربية" من الحضارة الإنسانية وحتى لا يحرم الإنسان العربي من الإطلاع على عصارة الفكر الغربي وتتمثل أهمية الكتاب الذي قام أبو يعرب بترجمته إلى العربية في أنه كتاب في "علم الإناسة" وتعود أهمية هذا المبحث " أن مسائل الإناسة تحتل مكانة هامة في جل العلوم من حيث كونها أتاحت التحرر من تمركز العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلوم الثقافة والطبيعة حول ذاتها وانفتاحها على هذا العلم بعد أن كاد تمركزها يحولها إلى شتات علوم بدون أفق إنساني ويتحول معها الإنسان إلى مجرد شيء من أشياء الوجود ويتحول التاريخ الإنساني إلى مجرد قطائع وانكسارات فجائية لا يربط بعضها ببعض سوى الإنفصالات وكأننا أمام شظايا تاريخ وشظايا إنسان وشظايا علوم وشظايا عالم . ويتمحور موضوع الكتاب كما جاء في تمهيد كاتبه "أنه دراسة لإناسة حديثة "الانتروبولوجيا " من زاويتين :المسألة الأولى تتناول تحليل تكوينات الإنسان الطبيعية والثقافية وتأويلاتها الفلسفية ومعالجة المسألة الإيتيقية الدائرة حول شروط التعارف بين البشر وكيفية التخلص التدريجي من تمركزها حول الذات وانفتاحها على مشروع تواصلي مع الآخر الحضاري إنقاذا للإنسانية من مخاطر عصر العولمة وما صاحبه من اعتداءات صارخة على كل القيم الإنسانية وتمزيقا لهوياتها .أما المسالة الثانية فتتعلق بالمسألة المعرفية والوعي بشرط التعاون بين الاختصاصات بعد أن هلكت المعرفة الكلية في أتون التخصص بانفصال العلوم بعضها عن بعض وتحولها إلى قطاعات جهوية مغرقة في التخصص فالكلي المعرفي مثله مثل الكلي الإنساني قد سقط في هاوية الجزئي والتخصصي وإن الإناسة في ثوبها الجديد وفي نسختها الألمانية المرتكزة على آليات التحليل والفهم قد مكنت من تجاوز ضيق ومآزق الأطروحات العلموية من أديان ومعتقدات وذهنيات وحتى الحياة اليومية , منفتحة بذلك على كل ما كان يعتقد هامشي أو ما ظن أنه ينتمي إلى مرحلة طفولية من الوعي البشري حسب التقسيم الوضعي لتاريخ الفكر البشري منذ الفرنسي أقيست كونت.بهذا المعنى يمثل كتاب كريستوف فولف "المعنون "علم الاناسة : التاريخ والثقافة والفلسفة " بترجمته للعربية مكسبا فلسفيا وأنتروبولوجيا سيساهم في تغذية المكتبة العربية وروحها الفلسفية بكتاب يعد"منعرجا إناسيا" بما أن الثقافة الغربية تمتلك القدرة المتجددة على نقد ذاتها وتجديد مقولاتها. خاصة إذا كانت الترجمة من طرف فيلسوف مقتدر بحجم أبو يعرب المرزوقي ويتكون الكتاب من قرابة 400 صفحة موزعة على بابين إضافة إلى التمهيد والخاتمة . ويتكون الباب الأول من خمس فصول كما يلي: الفصل الأول يهتم ب"تطور التأنس , الفصل الثاني الأناسة الفلسفية . الفصل الثالث الإناسة في علم التاريخ , الفصل الرابع الأناسة الثقافية والخامس الأناسة التاريخية التي ينتهي فيها إلى التذكير "أن البحوث في الإناسة التاريخية تمدنا بمساهمات مهمة بالنسبة إلى علوم الثقافة " فهي "بخلاف الإناسة الفلسفية التي تستهدف المعارف المميزة للإنسان تنطلق الإناسة التاريخية من تاريخية بحوثها وثقافتها المضاعفة فتتحدد تارة بتاريخية الحاضر وثقافيته وطورا بوضعية الباحث التاريخية والثقافية ... لتقدم مساهمة في تأويل الذات وتحقيق فهم الحاضر لذاته "[2] "وإلى جانب المسائل الجسدية والحسية تتجه بحوث الإناسة الثقافية كذلك إلى أغراض لا يكاد علم مختص بها مثل النفس والمقدس والجميل والحب " فعلم الإناسة الحديث بهذا المعنى قد انفتح بشكل كبير على كل ما هو إنساني وما كان يعتقد أنه هامشي ولم يسقط شيء من التجربة الإنسانية ولم يعد يؤمن بنظرية المركز والأطراف أو الهامش .أما الباب الثاني فيتكون من سبعة فصول موزعة كما يلي :الفصل السادس "الجسد بوصفه تحديا " الفصل الثامن " التعليم وأسسه المحاكية" الفصل الثامن "نظريات الإنشاء الفعلي وممارسته " الفصل التاسع "إعادة اكتشاف الشعائر " الفصل العاشر" اللغة بين الكونية والخصوصية" الفصل الحادي عشر"الصورة والخيال" الفصل الثاني عشر"الموت والغيرية" وفي هذا الباب معالجة لإشكالية معرفية تدور حول شروط التعاون بين مختلف الاختصاصات عبر تجاوز حدودها وانفتاحها على التجارب المهمشة في الوضع الإنساني خاصة وان مناهج التحليل والفهم والتأويل قد منحت فرصة لتعدد والاختلاف إذ" بدلا من تنميط البشر فإن المطلوب هو عولمة تأملية ونقدية وغير متجانسة عولمة نتجه في إطارها إلى تغيير سلسلة من التطورات التي حصلت إلى حد الآن عولمة تتضمن تنوعا ثقافيا وتحديا للآخرين وكذلك للتفكير الأناسي في الفروق التاريخية والثقافية الحاصلة في حركية العولمة."[3]إن الكتاب يمثل بحق "منعرجا إناسيا" كما أطلق عليه كاتبه لأنه كما يقول في معرض تلخيصه لأطروحات الكتاب الواردة في الخاتمة أن "الأناسة الثقافية ليست علما مختصا فبحوثها تابعة لفنون علمية مختلفة وهي تقع على تخومها ... وفي إطارها يتم تطبيق تعدد المناهج . ومن هذه المناهج العمل على المصادر التاريخية وهرمينوطيقا النصوص في علم الأدب والبحث الإجتماعي الكيفي والتفكير الفلسفي وهي لا تقتصر في بعض بحوثها على تجاوز الحدود بين العلوم المختصة المختلفة ولنماذج العملية بل هي كذلك تتجاوز الحدود الفاصلة بين الفن والأدب والمسرح والموسيقى ".وإختيار الفيلسوف أبو يعرب تعريب هذا الكتاب إنما هو اختيار ذكي وواعي بأهداف ترحله في أتون المتن الفلسفي الغربي وخاصة الألماني ومن خلال مدرسة جديدة علينا في الثقافة العربية ذلك أننا تعودنا على دراسة علم الإناسة من بوابة الفلسفة الفرنسية وهاهو أبو يعرب كعادته بسبقه الفلسفي وبحدوسه الثقافية العميقة يقدم لنا "منعرجا فلسفيا جديدا " في دراسة علم الإناسة من زاوية الفلسفة الألمانية وما أحوج الثقافة العربية لمثل هذه الترجمات التي تنصت مباشرة لنص في أصله الألماني وتعيد إنتاجه بلسان عربي مبين بعد أن أصبحت الترجمة عن الألمانية مباشرة حسيرة ومحدودة رغم زخم الإرث الفلسفي الألماني وأهميته ورغم حاجتنا نحن الأكيدة للإطلاع عليه فعسى أن يكون لنا في جهود الفيلسوف العربي أبو يعرب خير معين للإطلاع على اعرق التجارب الفلسفية في العالم بما يساهم بعودة الدور العربي الريادي في مجال حركة ترجمة العلوم والفلسفة وإننا إذ نثمن جهد أستاذي الذي أتشرف أني كنت يوما إحدى طالباته فإننا نطلب منه أن يزيدنا من ترجماته الثمينة من الألمانية إلى العربية وان يرضي شغفنا وعطشنا المعرفي للإطلاع على الثقافة الفلسفية الإنسانية وما توفره من فرصة ثمينة لمعرفته مباشرة كما تسمح للآخر التعرف إلي مباشرة ضمانا لحسن العيش مع...نختم بما قاله المؤلف الألماني كريستوف فولف عن المترجم العربي أبي يعرب المرزوقي:"هذا العمل المهم اليوم بالنسبة إلى تحقيق التفاهم بين البشر جعله في متناول القراء في العالم العربي وأنا مدين بالشكر خاصة لأبي يعرب الذي أنجز هذه الترجمة بكبير الاقتدار وعظيم الالتزام."[4]إن مثل هذا الاعتراف يجعلني ننتظر إلى المزيد من الترجمات الجادة التي تتقن فن حسن الضيافة اللغوية وتفتح أبواب لغة الضاد على مصراعيها من أجل النهل من كشوفات الثقافة الألمانية المعاصرة، فيا ترى بماذا سيفاجئنا الأستاذ أبو يعرب مستقبلا؟ وعن أي مدرسة سيتحدث بعد العقلانية النقدية وعلم الاناسة؟المرجع:كرستوف فولف، علم الاناسة، التاريخ والثقافة والفلسفة ، ترجمة أبو يعرب المرزوقي، عن دار كلمة الإمارات العربية المتحدة وبالتعاون مع الدار المتوسطية للنشر، الطبعة الأولى 2009.
Read more…